في عمق الذاكرة الشعبية التونسية، تبقى أسماء قليلة محفورة رغم مرور الزمن، لأنها لم تكن مجرد أسماء عابرة، بل وجوهًا صنعت من حضورها ملامح لمرحلة اجتماعية وثقافية كاملة.
من بين هذه الأسماء، تبرز الراقصتان زينة وعزيزة، أيقونتان صنعتا الجدل والبهجة في آن، ورسمتا بشخصيتيهما القوية وجرأتهما مسارًا فنيًا غير مألوف، تردد صداه بين الأعراس، التلفزة، والمقاهي الشعبية.
ولادة ثنائي شعبي غير مألوف :
زينة وعزيزة ليستا مجرد راقصتين، بل ثنائي فني أعاد صياغة مفهوم "الرقص الشعبي" بطريقة خارجة عن المألوف، إذ جمعتا بين الأداء الجسدي القوي، والحضور الكاريزمي، والصوت الاجتماعي الناقد أحيانًا.
كان ظهورهما دائمًا ملفتًا، مختلفًا، متحررًا من القيود الفنية التقليدية، ويصاحب حضورهما غالبًا نقاشات حول حدود الفن، الجرأة، والحرية الفردية.
برقصاتهما وأزيائهما وطريقتهما في التفاعل مع الجمهور، لم تكتفِ زينة وعزيزة بأداء فني تقليدي، بل قدّمتا عرضًا متكاملاً من التعبير الشعبي، المتجذر في الثقافة التونسية، والمرتبط بالمناسبات الاجتماعية، من حفلات الزفاف إلى عروض الشارع وحتى المناسبات التلفزيونية.
الجرأة والموقف : بين الاحتفاء والنقد
كانت زينة وعزيزة محل احتفاء واسع في بعض الأوساط، خصوصًا لدى الفئات الشعبية التي رأت فيهما امتدادًا لثقافة الفرجة والاحتفال، بينما اعتبرهما البعض الآخر نموذجًا للابتذال أو رمزين "للفن المنخفض"، كما يُصنّف أحيانًا من طرف النخبة.
لكن مهما اختلفت الآراء، فالثنائي فرض حضوره، وفرض أيضًا النقاش حول الفن الشعبي، موقع المرأة فيه، وحدود ما يمكن قبوله أو رفضه.
ورغم الانتقادات التي طالت مظهرهما، حركاتهما، وطريقة كلامهما، ظلّتا وفيّتين لأسلوبهما، بل وقادرتين على تحويل الجدل إلى وسيلة لمزيد من الانتشار والنجومية.
تمثيل المرأة الشعبية :
ربما ما يجعل زينة وعزيزة محط اهتمام ليس فقط الرقصة أو الأغنية، بل الصورة التي حملتاها للمرأة الشعبية : القوية، الجريئة، الحاضرة في الفضاء العام. لقد تحدّتا الأعراف الاجتماعية من خلال الحضور الجسدي واللغوي المباشر، وكسرتا النموذج التقليدي للأنثى "الساكنة" أو "المنضبطة".
عبر الرقص والكلمة، عبّرتا عن واقع طبقي، عن نساء مهمّشات أحيانًا، ولكنّهنّ موجودات، يتحدّين، يرقصن، ويضحكن من قسوة المجتمع نفسه.
التحول الرقمي وتجدد الحضور :
مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، اكتسبت زينة وعزيزة بعدًا جديدًا من الانتشار.
فصارت مقاطع رقصهما، وتدخلاتهما الإعلامية، وحتى مواقفهُما الشخصية تُتداول على نطاق واسع، وتُعيد تشكيل صورتهما في وعي الأجيال الجديدة.
وبالرغم من تغير الزمن والذوق، ظلّتا تحافظان على هويتهما الأصلية، بلا تصنّع ولا تقليد.
ما بين الشعبية والتوثيق :
رغم كل الحضور، لم تنل زينة وعزيزة التوثيق الأكاديمي أو الثقافي الكافي. فغالبًا ما يتم إقصاء هذا النوع من التعبير الفني من الدراسات النقدية، رغم أهميته في قراءة الذوق العام وتحوّلات المجتمع.
فهما ليستا مجرد فنانتين، بل ظاهرتان تعكسان تحولات في نظرة التونسي إلى الجسد، إلى المرأة، وإلى الفضاء العام.
ثنائيتان في الذاكرة :
سواء أحببت أسلوبهما أم لا، لا يمكنك أن تنكر أن زينة وعزيزة تمثلان جزءًا من الثقافة الشعبية التونسية.
فرضتا وجودهما بالقوة والابتسامة والرقصة، وكتبتا فصلاً خاصًا من تاريخ الفن التونسي، بكل تناقضاته وتنوعه.
فهما لا تنتميان فقط إلى "الفولكلور"، بل إلى حكاية مجتمع كامل.
الوفاة :
في 28 أوت 2024 غيّب الموت الراقصة الشعبية التونسية شاذلية بوزيان، المعروفة باسم "عزيزة"، بعد مسيرة فنية حافلة بدأت في خمسينيات القرن الماضي إلى جانب شقيقتها "زينة".
انطلقت مسيرتهما من حي الملاسين بالعاصمة تونس، حيث تألقتا في مسارح "الكافيشانطا" وشاركتا في عروض فنية داخل البلاد وخارجها، كما ظهرتا في فيلم "Goha" إلى جانب ممثلين عالميين مثل كلاوديا كاردينال.
توفيت "زينة" منذ سنوات طويلة، وبعد وفاتها، قررت "عزيزة" الابتعاد عن الأضواء والاختفاء عن الأنظار.
وقد نعت وزارة الشؤون الثقافية التونسية "عزيزة" باعتبارها أيقونة من أيقونات الرقص الشعبي، معربة عن تعازيها لعائلتها وللأسرة الفنية والموسيقية.
رحيل "زينة وعزيزة" يمثل خسارة كبيرة للفن الشعبي التونسي، حيث كانتا رمزًا للجرأة والتجديد في مجال الرقص، وترك رحيلهما فراغًا في الساحة الفنية التونسية.