يُعتبر الممثل التونسي جلول الجلاصي من أبرز الأسماء التي ساهمت في إثراء المشهد الفني التونسي عبر عدة عقود.
اسمه ارتبط بأدوار متنوعة في المسرح والسينما والتلفزيون، حيث ترك بصمة مميزة في كل مجال شارك فيه، بفضل موهبته الفذة وقدرته على تجسيد شخصيات متعددة بكل واقعية واحترافية.
النشأة والبدايات الفنية
وُلد جلول الجلاصي في تونس العاصمة، في عائلة تحترم الفن والثقافة، مما ساهم في تشكيل وعيه الفني منذ الصغر.
منذ سنوات شبابه الأولى كان مهتمًا بالفنون الأدائية، وبدأ مشواره الفني في المسرح الجامعي حيث شارك في عدة عروض مسرحية أظهرت موهبته الفطرية.
كان المسرح هو المدرسة الأولى التي صقلت موهبته، هناك تعلم أساسيات التمثيل، كيف يتعامل مع النصوص، وكيف يخرج المشاعر بدقة، كما تعرف على الزملاء والفنانين الذين شكلوا معه جيلًا جديدًا من الممثلين التونسيين.
كان من أبرز المؤثرين في بداية مشواره عدد من أساتذة المسرح الذين علموه طرق التعبير والإلقاء، إضافة إلى أساليب التمثيل الواقعي التي لاحظها وتعلمها من بعض الفرق المسرحية المحلية.
هذه الأسس جعلته قادرًا على الإبداع والتطور بسرعة.
المسيرة المهنية والنجاحات
دخل جلول الجلاصي عالم السينما والتلفزيون في مرحلة كانت فيها الصناعة الفنية التونسية تشهد طفرة مهمة. كانت له مشاركة في أعمال سينمائية ذات طابع اجتماعي وسياسي، حيث جسد أدوارًا تعبّر عن قضايا المجتمع التونسي بكل تناقضاته وأحلامه.
أحد أبرز ملامح مسيرته هو التنوع الكبير في الأدوار التي قدّمها؛ إذ لم يقتصر على نوع واحد من الشخصيات، بل تنقل بين أدوار كوميدية، درامية، وأدوار ذات بعد تاريخي أو اجتماعي، مما جعله واحدًا من الممثلين القادرين على جذب مختلف فئات الجمهور.
تميز الجلاصي بحرفية في اختيار الأدوار التي تتيح له إظهار موهبته، فغالبًا ما اختار أدوارًا تحمل رسائل إنسانية وقيمية، مع الحرص على تقديمها بشكل لا يخلو من واقعية ومصداقية.
وهذا ما جعل أعماله تترك أثرًا طويل الأمد في ذاكرة المشاهدين.
التقليد: فن تقمص الشخصيات ببراعة
من أبرز المهارات التي تميز بها جلول الجلاصي هو "التقليد" أو تقمص الشخصيات بطريقة متميزة، وهو فن قديم في عالم التمثيل يُعنى بمحاكاة خصائص وأسلوب شخصيات معينة سواء كانت حقيقية أو خيالية، بحيث يحقق الممثل أكبر قدر من الشبه في الصوت، الحركة، التعبيرات الوجهية، وأسلوب الكلام.
في حالة جلول الجلاصي، كان التقليد أداة أساسية في تطوير أدواره وإثرائها، إذ استطاع أن ينقل بدقة تصرفات وشخصيات من الواقع المحيط به، أو حتى من مراجع ثقافية وشعبية، مع إضافة لمسته الفنية الخاصة.
ليس التقليد مجرد نسخ سطحي، بل هو استيعاب عميق للنفسية والسلوكيات.
مثلاً، في بعض أدواره، قام بتقليد لهجات مختلفة من داخل تونس، وكذلك بعض الصفات السلوكية التي تميز فئات اجتماعية محددة، وهذا أضفى على شخصياته أصالة وواقعية.
كما أنه لم يقتصر على تقليد الأصوات فقط، بل كان يبدع في التعبير الجسدي، مما جعل تقليده فنيًا راقيًا ليس مجرد محاكاة.
هذا الأسلوب جعله محبوبًا من قبل الجمهور الذي يشعر بأن الشخصية ليست مجرد تمثيل، بل هي صورة حية قريبة منهم، تشبه أشخاص يعرفونهم في حياتهم اليومية.
أبرز الأعمال الفنية
شارك جلول الجلاصي في عدد من المسلسلات التلفزيونية التي حققت جماهيرية واسعة، منها مسلسلات كوميدية تناولت الحياة اليومية بأسلوب ساخر، وأخرى درامية تعالج موضوعات اجتماعية شائكة.
في المسرح، كانت له عروض مسرحية بارزة في المهرجانات المحلية والدولية، حيث برع في الأدوار الكوميدية والدرامية على حد سواء، مقدماً عرضاً حيوياً يدمج بين الحرفية والانفعالات الصادقة.
أسلوب التمثيل وتأثيره الفني
يعتمد جلول الجلاصي في أدائه على الواقعية الشديدة، فهو ينغمس في شخصياته حتى يصل إلى جوهرها النفسي والعاطفي، ويجعلها نابضة بالحياة.
يتميز بقدرته على استخدام تعابير الوجه، نبرة الصوت، ولغة الجسد بطريقة متكاملة تعبر عن كل مشاعر الشخصية.
في ذات الوقت، يمتلك قدرة كبيرة على الارتجال المدروس، حيث يمكنه التفاعل مع الأحداث والممثلين الآخرين بطريقة تضيف عمقًا جديدًا للأداء، وهذا ما يجعله مميزًا في المشاهد التي تتطلب ردود فعل سريعة ومفاجئة.
لقد أثر أسلوبه في عدد من جيله من الممثلين الذين يرون فيه نموذجًا للفنان الملتزم والموهوب، ما جعله مصدر إلهام للعديد من الطلاب والمهتمين بالتمثيل في تونس.
حياته الشخصية وتأثيره خارج الفن
رغم شهرته، يحافظ جلول الجلاصي على جانب من حياته الخاصة بعيدًا عن الأضواء.
هو معروف بتواضعه واحترامه لزملائه، كما أنه يسعى دائماً لدعم الشباب والموهوبين الجدد في مجال الفن.
يشارك في ورش عمل ومحاضرات تعليمية تهدف إلى تطوير مهارات التمثيل لدى الجيل الجديد، ويشجع على المحافظة على الهوية الثقافية التونسية في الأعمال الفنية.
كما أنه ناشط في بعض المبادرات الاجتماعية والثقافية التي تهدف إلى تعزيز الوعي المجتمعي، مؤمنًا بأن الفن رسالة قبل أن يكون عرضًا أو تسلية.
التحديات التي واجهها والإنجازات
واجه جلول الجلاصي تحديات عدة خلال مشواره، مثل التغيرات التي شهدها الوسط الفني من حيث التمويل، توزيع الأدوار، وتفضيلات الجمهور التي تتغير مع الزمن. لكنه لم يسمح لهذه التحديات أن توقفه، بل كانت دافعًا له لتطوير نفسه والبحث عن فرص جديدة.
كما عانى من محدودية الفرص في بعض الفترات بسبب الظروف الاقتصادية والسياسية، لكن استمراريته والتزامه الفني كانا العامل الحاسم في نجاحه.
حقق العديد من الجوائز والتكريمات التي تعكس تقدير الوسط الفني له ولأعماله، كما أن الجمهور التونسي يحفظ له مكانة خاصة في قلوبهم.
اهتمامه بالتمثيل الكوميدي وتأثيره فيه
رغم قدرته الكبيرة على تجسيد الأدوار الدرامية العميقة، فإن جلول الجلاصي أبدع أيضًا في مجال الكوميديا، حيث استطاع أن يقدم أدوارًا ساخرة ومضحكة بشكل لا يقل أهمية عن أدواره الجادة.
كانت الكوميديا بالنسبة له وسيلة لإيصال رسائل اجتماعية بطريقة خفيفة، ويستخدمها كأداة نقد اجتماعي وفني.
هذا الجانب من أدائه حظي بشعبية واسعة، خاصة في المسلسلات والمسرحيات التي تستهدف شريحة كبيرة من الجمهور.
التقليد في الكوميديا، الذي سبق وذكرت أهميته، كان له دور كبير في إبراز موهبته في هذا المجال، حيث تمكن من تقليد شخصيات ومواقف بطريقة فكاهية ساخرة ومؤثرة.
الحسّ الفكاهي وتقليد الشخصيات : بصمة جلول الجلاصي المتفرّدة
من أبرز السمات التي ميزت الممثل جلول الجلاصي وجعلته محبوبًا لدى فئات واسعة من الجمهور التونسي، هو حسّه الفكاهي الطبيعي، وقدرته المذهلة على تقليد الشخصيات بأسلوب تلقائي وذكي.
لم يكن الجلاصي يُضحك الناس فقط من خلال النصوص التي يؤديها، بل من خلال حضوره العفوي، وطريقته المرحة في تجسيد المواقف الحياتية اليومية بلمسة ساخرة لاذعة، قريبة من وجدان المتلقي.
امتلك الجلاصي قدرة نادرة على تقمّص شخصيات مختلفة تمامًا في الشكل والمضمون، سواء عبر تغييره لصوته، أو استخدامه لتعابير وجه مرنة، أو محاكاته الدقيقة للهجات وسلوكيات فئات اجتماعية متعددة.
وقد استغل هذه الموهبة في عديد الأدوار المسرحية والكوميدية، وأحيانًا حتى في كواليس العمل أو في اللقاءات التلفزيونية، حيث كان يُبهر الحاضرين بسرعة بديهته ومرحه الذكي.
لم يكن تقليد الجلاصي سطحيًا أو مجرد نسخ لحركات أو أصوات، بل كان دائمًا يُضفي على الشخصية التي يُقلّدها عمقًا ساخرًا أو نقدًا ضمنيًا، مما جعل تقليده أداة فنية راقية تعبّر عن الواقع وتُسلّط الضوء على قضايا اجتماعية بطريقة ساخرة.
وقد قيل عنه كثيرًا إنه «ممثل يجمع بين حسّ الممثل الكوميدي ونباهة الملاحظ الاجتماعي».
وكان من الملفت أن الجلاصي لا يكتفي بتقليد شخصيات عامة أو مشهورة، بل يستلهم من الناس البسطاء، من السوق، من الحي الشعبي، من مقهى الجيران، ويعيد صياغتهم على الخشبة أو الشاشة بطريقة تُضحك وتُبكي في آنٍ واحد.
هذه القدرة جعلته فنانًا قريبًا جدًا من جمهوره، لأنه يعكس صورًا مألوفة لهم في قالب فكاهي إنساني.
وقد أكّد العديد من زملائه أن الجلاصي كان أيضًا أحد أكثر الفنانين قدرة على كسر الجمود أثناء التصوير أو البروفات، إذ كان يُضفي أجواءً من المرح والضحك على الفريق، دون أن يفقد الجدية والاحترام للمهنة.
علاقات الجلاصي مع زملائه في الوسط الفني
يُعرف جلول الجلاصي بأنه شخصية اجتماعية محبوبة بين زملائه الفنانين، فهو لا يتوانى عن تقديم الدعم والمساعدة لكل من يحتاجها، خصوصًا الفنانين الشباب والمبتدئين.
تعاون مع عدد كبير من كبار المخرجين والممثلين، مما أثرى تجربته وزاد من رصيده الفني.
علاقاته الطيبة مع زملائه جعلته محط احترام في الوسط، كما كان كثيرًا ما يشارك في المبادرات الفنية الجماعية التي تهدف إلى تعزيز العمل الفني التونسي.
كما يمتاز بالتواضع رغم نجاحه الكبير، وهو ما يجعل الجميع يثق في صدقه وأخلاقه المهنية.
دوره في دعم الثقافة التونسية واللغة المحلية
جلول الجلاصي كان من الفنانين الذين يؤمنون بأهمية الحفاظ على الهوية الثقافية التونسية من خلال الفن. لذلك، حرص دائمًا على استخدام اللغة العربية باللهجة التونسية في أعماله، مع التركيز على نقل تفاصيل الحياة اليومية والموروث الشعبي.
كما ساهم في إعادة إحياء بعض القصص والحكايات التونسية عبر المسرح والسينما، مما جعله جزءًا من حركة فنية تهدف إلى تعزيز الثقافة الوطنية والحفاظ عليها.
هذا الاهتمام بالتراث جعل جمهوره يشعر بقرب أكبر من أعماله، وأضفى عليها بعدًا إنسانيًا محليًا أصيلًا.
التحديات الصحية التي مر بها وتأثيرها على مسيرته
في مراحل متقدمة من حياته، واجه جلول الجلاصي بعض التحديات الصحية التي أثرت على نشاطه الفني مؤقتًا. ورغم ذلك، ظل محافظًا على حضوره الفني من خلال مشاركاته المحدودة والنادرة، كما عمل على التكيف مع وضعه الصحي دون التخلي عن الفن الذي أحبه.
هذه الفترة كشفت عن قوة شخصيته وإصراره على الاستمرار، حيث كان يحرص على الظهور في المناسبات الفنية ودعم زملائه حتى وإن لم يكن نشطًا في التمثيل.
تكريمات وجوائز حصل عليها خلال مسيرته
لم تخلُ مسيرة جلول الجلاصي من التكريمات، حيث نال عدة جوائز تقديرية على جهوده في تطوير الفن التونسي وعلى أدائه المتميز في أدواره المختلفة. كانت هذه الجوائز على مستوى المهرجانات المحلية والدولية، مما يعكس الاعتراف الواسع بموهبته.
كما تم تكريمه من قبل مؤسسات ثقافية وأكاديمية تقديرًا لمساهمته في إثراء المسرح والسينما في تونس، وكانت هذه التكريمات فرصة لإبراز تأثيره الكبير في المشهد الفني.
غياب جلول الجلاصي ومرضه في السنوات الأخيرة
شهد الوسط الفني التونسي في السنوات الأخيرة غيابًا ملحوظًا للممثل الكبير جلول الجلاصي، وهو غياب أثار حزن وتعاطف جمهور ومحبي الفن في تونس.
كان هذا الغياب ناتجًا عن معاناة الجلاصي من وعكة صحية أثرت بشكل كبير على قدرته على العمل وممارسة نشاطه الفني كما كان معتادًا.
وفقًا لما تم تداوله في الأوساط الفنية والإعلامية، فقد أصيب الجلاصي بأزمة صحية كانت بحاجة إلى فترة طويلة من العلاج والراحة، ما جعله يبتعد عن الأضواء لفترة ليست قصيرة.
وعلى الرغم من ذلك، ظل الجلاصي محافظًا على تواصله الروحي والفكري مع الفن، حيث لم يتوقف عن متابعة المشهد الفني ودعم زملائه من بعيد.
تأثر كثير من محبي جلول الجلاصي بهذا الغياب، وتمنوا له الشفاء العاجل، مؤكدين أن إسهاماته الفنية لا تُنسى وأنه كان وسيظل رمزًا من رموز التمثيل في تونس.
كما عبّر عدد من الفنانين والمثقفين عن دعمهم له، معتبرين مرضه خسارة كبيرة للوسط الفني.