في زمن لم تكن فيه الصورة مرجعية أساسية للحكاية، وفي أيام كانت الإذاعة نافذة الشعب على الخيال، برز صوت رخيم، دافئ، ومتمكن، يحمل في طيّاته وهج القصص وحكمة الأجيال.
ذلك الصوت كان صوت عبد العزيز العروي، الذي لم يكن مجرد مذيع أو راوي حكايات، بل كان صوت الذاكرة التونسية، وحارسًا أمينًا للتراث الشعبي المنقول شفهيًا من جيل إلى آخر.
على امتداد عقود، صنع العروي علاقة خاصة وفريدة مع المستمعين والمشاهدين.
كان بمثابة الجدّ الذي يسرد حكاياته كل ليلة، فيثير الفضول، ويغذّي الخيال، ويزرع الابتسامة على الوجوه. لم يكن الحكي عنده وسيلة تسلية فقط، بل أداة تربية وتثقيف وحفظ للهوية الثقافية التونسية.
البدايات : من التعليم إلى المنبر الإذاعي
وُلد عبد العزيز العروي في مدينة تونس سنة 1898، في وقت كانت فيه البلاد التونسية تمرّ بتحولات اجتماعية وثقافية كبيرة في ظلّ الحماية الفرنسية.
نشأ وسط بيئة تونسية تقليدية، حيث كانت الحكاية الشعبية جزءًا من الثقافة المنزلية والمجالس اليومية.
درس في المدرسة الصادقية العريقة، حيث تشرّب المبادئ الحديثة للتعليم، وتكوّن تكوينًا يجمع بين العربية والفرنسية، الأمر الذي هيّأه لاحقًا للعب دور حلقة وصل بين التراث الشفهي القديم والوسائل الإعلامية الحديثة. بدأ حياته العملية في مجال التعليم، ثم التحق بالعمل الإداري، قبل أن يكتشف موهبته الفريدة في الحكي الشعبي وسرد القصص بأسلوب يأسر المتلقي.
الراوي الأول: تجربة إذاعية استثنائية
في الخمسينيات، انطلقت تجربته الإذاعية التي ستشكّل لاحقًا علامة فارقة في تاريخ الإعلام التونسي.
من خلال برنامجه الإذاعي الشهير "قال الراوي"، دخل عبد العزيز العروي البيوت التونسية من بابها الكبير، وأصبح صوته مألوفًا ومرغوبًا.
كانت قصصه تنطلق عادة بجملته الشهيرة:
"قال الراوي، وكان يا ما كان، في قديم الزمان..."
لتنقل المستمع إلى عالم من الحكايات التراثية، المشبعة بالمغامرة والحكمة والدهاء الشعبي.
استطاع من خلال أسلوبه السلس، وصوته الجذّاب، وحنكته في السرد أن يجعل المستمع يعيش داخل الحكاية، يرى أبطالها، ويتفاعل مع أحداثها.
ولم تكن حكاياته من وحي الخيال فقط، بل كانت في كثير من الأحيان تعبيرًا عن الواقع الاجتماعي والسياسي لتونس، يُرمّز من خلالها إلى الفساد، أو الظلم، أو الجهل، بأسلوب ذكي لا يصطدم مع الرقابة لكنه يصل بقوة إلى الوعي الجمعي.
من الإذاعة إلى التلفزة : ولادة حكاية مصوّرة
في بداية السبعينات، انتقل عبد العزيز العروي إلى التلفزة التونسية، حيث قدّم برنامجه التلفزي الشهير أيضًا "قال الراوي"، لكن هذه المرة بالصورة والصوت معًا.
جلسته الشهيرة، بلباسه التقليدي، ووجهه الوقور، وطريقته الهادئة في السرد، أصبحت جزءًا من الذاكرة البصرية لجيل كامل من التونسيين.
كانت الحكاية التلفزيونية تتمتّع بنفس خصائص السرد الإذاعي: حبكة مشوّقة، نهاية غير متوقعة، ورسالة ضمنية بليغة.
وفي أحيان كثيرة، كان العروي يُقدّم القصة على أنها حقيقية حدثت في تونس أو في محيطه، ما أضفى على السرد مزيدًا من المصداقية والحميمية.
أسلوبه في الحكي: البساطة والعمق
تميز أسلوب عبد العزيز العروي بمزج اللغة العربية البسيطة باللهجة التونسية، دون أن يسقط في الإسفاف أو التكلف.
كان يحترم ذوق المستمع، ويحرص على أن تكون لغته مفهومة لجميع الطبقات الاجتماعية، خاصة الفئات الشعبية التي وجدت فيه صوتًا يعكس نبضها ويعبّر عن همومها.
كما امتلك قدرة بارعة على التحكم في الإيقاع السردي: يعرف متى يصمت، متى يرفع صوته، متى يضحك، ومتى يُثير الحزن.
وهذا ما جعل حكاياته تتجاوز جدران البيوت لتُروى في المقاهي والمدارس وحتى في السهرات العائلية.
تأثيره الثقافي والاجتماعي
لا يمكن الحديث عن عبد العزيز العروي دون الإشارة إلى أثره الثقافي الكبير في تشكيل الوعي التونسي، خاصة لدى الأجيال التي نشأت في فترة ما قبل الإنترنت والتلفزيون الرقمي.
كان بمثابة جسر ثقافي حافظ من خلاله التونسيون على جانب كبير من حكاياتهم التراثية، التي كانت مهددة بالاندثار في ظل الحداثة المتسارعة.
كما لعب دورًا مهمًا في تعليم القيم من خلال الحكاية: كالصدق، والعدل، والعمل، والعقل، والتسامح.
لم تكن قصصه مجرد ترفيه، بل دروسًا غير مباشرة تصل بلغة محبّبة إلى القلوب قبل العقول.
من أبرز حكاياته :
كان عبد العزيز العروي يتمتع بموهبة فريدة في إحياء التراث الشعبي التونسي بطريقة حية ومشوقة.
من أشهر الحكايات التي يرويها هي قصص "الحكواتي والسلطان"، حيث كان يسرد مواقف فكاهية من قصور السلاطين والحكام، مع نقد لطيف وساخر لأوضاع السلطة والناس في آنٍ واحد. كان يستخدم هذه القصص ليبرز قيم العدل والذكاء الشعبي، ويُعلّم المستمعين دروسًا في الحكمة والمروءة.
ومن الحكايات التي اشتهر بها العروي أيضاً، قصة "الشيخ والفتى" التي تحكي عن التلميذ الذي يتعلم الحكمة من معلمه الحكيم، وكيف أن الحياة مليئة بالمواقف التي تحتاج إلى صبر وفطنة.
كانت هذه القصة تُلقى بأسلوب ساخر وذكي، مما يجعلها مفضلة لدى الشباب والكبار.
في جلسات الحكواتي التي كان يعقدها في الأسواق الشعبية أو في المهرجانات الثقافية، لم يكن عبد العزيز يكتفي بسرد الحكاية فقط، بل كان يدخل في تفاعل مع الجمهور، يسألهم ويشاركهم النكات، ويستدعي من الذاكرة حكايات أخرى تناسب الموقف.
هذا الأسلوب التفاعلي جعله محبوبا جداً من الناس، الذين كانوا يشعرون أنهم جزء من الحكاية نفسها.
كان العروي يعتزّ باستخدام اللغة التونسية الدارجة في حكاياته، مما قرب الفن إلى الناس العاديين وضمن بقاء التراث الشعبي حياً.
كما كان يضيف لمسته الخاصة من التعبيرات الصوتية والحركات التي تضفي حياة على الشخصيات التي يروي عنها.
تكريمه وإرثه
توفي عبد العزيز العروي سنة 1971، لكن إرثه ظلّ حيًّا في الذاكرة التونسية، ويعاد بثّ بعض تسجيلاته حتى اليوم.
كما تناول العديد من الباحثين تجربته في كتب ودراسات حول السرد الشعبي والإعلام الثقافي. وتم تكريمه بعد وفاته في عدة مناسبات ثقافية كمثال للراوي الذي جسّد التحوّل من السرد الشفهي إلى الإعلام الحديث دون أن يفقد جوهر الحكاية.
وتعتبر تجربته اليوم مرجعًا في مجال السرد الإذاعي والتلفزيوني، وقد ألهمت العديد من الممثلين والإعلاميين في تونس وخارجها.
صوت لا يُنسى
قد تكون التكنولوجيا قد بدّلت طرق الحكي وأساليبه، لكن ما لا يمكن تغييره هو أثر عبد العزيز العروي، ذلك الرجل الذي عرف كيف يصنع عالماً كاملاً بالكلمة والصوت، دون مؤثرات ولا شاشة خضراء.
لقد كان راويًا لا يُشبه أحدًا، يحمل في نبرته حكمة الأجداد، وذكاء الشعوب، وسحر الخيال، ليبقى اسمه علامة مضيئة في ذاكرة الثقافة التونسية.