جميلة الشاشة جودة ناجح : بصمة راسخة في ذاكرة الدراما التونسية



في مشهد فني يزخر بالأسماء اللامعة والطاقات المتجدّدة، تبرز جودة ناجح كواحدة من أهم الفنانات التونسيات اللاتي قدّمن تجربة متميزة في التمثيل، تجمع بين الحضور القوي والعمق الإنساني في الأداء. 
هي ليست مجرد وجه معروف في الشاشة أو على خشبة المسرح، بل تُعدّ صوتًا نسائيًا فنيًا حمل قضايا مجتمعه، وتماهى مع أدوار غنية بالمعاني والدلالات. 
امتدت مسيرتها لعقود، وشهدت على تحوّلات الفن التونسي، وأسهمت في ترسيخ تقاليد أداءٍ واقعيٍّ يقترب من روح الناس.
 
النشأة والبدايات الفنية :

وُلدت جودة ناجح في تونس في ستينيات القرن الماضي، ونشأت في بيئة تقدّر الفن والثقافة. 
منذ سنواتها الأولى، أبدت اهتمامًا كبيرًا بالتمثيل، حيث كانت تشارك في الأنشطة الثقافية المدرسية، وقد بدا واضحًا لمن حولها أنها تمتلك موهبة فطرية في الأداء والتعبير.
بعد اجتياز المرحلة الثانوية، التحقت بجمعية مسرحية محلية حيث بدأت تتلقى تكوينًا أوليًا في تقنيات الوقوف على الخشبة، وتعمقت في دراسة النصوص وتقمص الشخصيات. 
هذه التجربة شكلت الانطلاقة الحقيقية لها في عالم الفن، ودفعتها إلى البحث عن التكوين الأكاديمي.
التحقت لاحقًا بالمعهد العالي للفن المسرحي بتونس، وهو أحد أبرز المؤسسات الفنية في البلاد، وهناك تلقت تكوينًا احترافيًا ساعدها على تنمية أدواتها الفنية وصقل أسلوبها، كما مكّنها من بناء شبكة علاقات داخل الوسط الفني كانت لها دور محوري في انطلاقتها.

المسرح : القاعدة الفنية الصلبة

بدأت جودة ناجح مسيرتها من المسرح، وتحديدًا من مسرح الهواة، ثم انتقلت تدريجيًا إلى خشبات المسرح الوطني التونسي ومسرح الجهات.
 لقد اعتبرت المسرح مدرستها الأولى والفضاء الذي علّمها الصدق في الأداء والانضباط في العمل.

من أبرز المسرحيات التي شاركت فيها :

"غسالة النوادر": حيث لعبت دورًا محوريًا في عمل يغوص في عمق المجتمع التونسي.
"القرعة": عمل نقدي سياسي قدمت فيه أداءً عالي الجودة، عبّرت فيه عن وجع المرأة المهمّشة.
"الرحيل": مسرحية درامية قدمت فيها شخصية مركبة تعاني من فقدان وانكسار داخلي.
تميزت مشاركاتها المسرحية بالالتزام والانضباط، وكانت تعتبر كل عمل خشبي بمثابة مغامرة إبداعية تتطلب الجهد والصدق الفني.
 كما عُرفت بقدرتها على الارتجال والتفاعل المباشر مع الجمهور، وهو ما جعلها محبوبة لدى النقاد والجمهور على حد سواء.

التلفزيون: الانتقال إلى الشهرة الواسعة

التحوّل الكبير في مسيرة جودة ناجح جاء مع انتقالها إلى التلفزيون، حيث بدأت تتلقى عروضًا لأداء أدوار ثانوية في البداية، ثم سُرعان ما أثبتت حضورها القوي، ما خوّل لها لعب أدوار رئيسية في عدة مسلسلات شهيرة.

من أبرز أعمالها التلفزيونية:

الخطاب على الباب (1996–1997)
الدور: "بيّة"

منامة عروسية (2000)
الدور: "بهيجة عزوز"

مكتوب (2008–2014)
الدور: "جميلة ناجي"
المخرج: سامي الفهري

 الزوجة الخامسة (2013)
الدور: "فائزة" (ضيفة شرف في الحلقة 9)
المخرجون: الحبيب المسلماني وجمال الدين الخليفي

هابي ناس (2013–2014)
الدور: "دليلة"

طلاق إنشا (2002)
المخرج: منصف ذويب

شمس وظلال (2003)
المخرج: عز الدين حرباوي

تجسيدها للشخصيات الواقعية والمرأة التونسية بكل تناقضاتها جعلها قريبة من المشاهد، وساهم في تكريسها كواحدة من أعمدة التمثيل التلفزي في تونس.

السينما : حضور محدود ولكن نوعي

لم تكن السينما المسار الأبرز في مسيرة جودة ناجح، إلا أن مشاركاتها فيها كانت ذات طابع نوعي.
وقد عبّرت في أكثر من مناسبة عن حبها للسينما رغم قلة الفرص، مؤكدة أن الانتقاء هو ما يجعل التجربة السينمائية فريدة رغم محدودية الكم.

الأسلوب الفني: الواقعية والصدق في الأداء

تتميز جودة ناجح بأسلوبها التمثيلي القائم على الواقعية والابتعاد عن المبالغة، فهي تؤمن أن التمثيل هو محاكاة للحياة، وأن الإقناع لا يأتي بالصوت المرتفع بل بالانفعالات الصادقة.
 تعتمد في أدائها على:
التحكم في لغة الجسد.
التوازن بين التعبير اللفظي وغير اللفظي.
استحضار تجارب واقعية أو إنسانية لخلق العمق العاطفي.
هذا الأسلوب جعلها قريبة من نبض المجتمع التونسي، وجعل شخصياتها تنبض بالحياة رغم بساطة النصوص أحيانًا.

الجوائز والتكريمات :
 
حصلت جودة ناجح على عدة جوائز تقديرية خلال مسيرتها، منها:
جائزة أحسن ممثلة في مهرجان قرطاج المسرحي.
تكريم خاص من وزارة الشؤون الثقافية التونسية.
درع الإبداع في مهرجان المسرح المغاربي بالمغرب.
كما تم اختيارها عضوة في لجان تحكيم لعدة مهرجانات فنية، ما يعكس الاعتراف بمكانتها ورصيدها المهني.

شخصية فنية متفرّدة :

تُعتبر جودة ناجح من الممثلات التونسيات اللاتي حافظن على خصوصية فنية واضحة، حيث لم تسعَ إلى التكرار أو الظهور المفرط، بل فضّلت أن تنتقي أدوارها بعناية لتترك بصمة قوية لدى المشاهد.
 لم تكن تسعى إلى البطولة المطلقة بقدر ما كانت تسعى إلى الأدوار المؤثرة، التي تضيف عمقاً إلى الحكاية، وهو ما جعلها من الأسماء التي تفرض حضورها حتى بأدوار صغيرة.

أسلوبها في التمثيل :

تتميّز جودة ناجح بأسلوب أداء طبيعي وعفوي، يخلو من المبالغة، ما يجعل المشاهد ينسى أنه أمام ممثلة ويشعر أنه أمام شخصية حقيقية من الواقع. 
تمتلك قدرة فريدة على إيصال الأحاسيس المعقدة بنظرة أو إيماءة، وقد ظهرت هذه القدرة في أدائها لشخصية "بيّة" في مسلسل الخطاب على الباب، التي أصبحت من الشخصيات الخالدة في ذاكرة الدراما التونسية.

العلاقة مع الجمهور :

تمكنت جودة ناجح من كسب احترام وتقدير الجمهور التونسي، وذلك بفضل تواضعها وصدقها الفني، حيث يرى فيها المشاهد صورة المرأة التونسية الحقيقية، بكل ما تحمله من بساطة وكرامة وقوة. 
وقد ساعدتها مشاركتها في أعمال شعبية مثل مكتوب ونسيبتي العزيزة على التقرّب أكثر من مختلف فئات الجمهور، ما زاد من شعبيتها رغم عدم ظهورها المستمر.

نظرة النقّاد إليها :

يرى الكثير من النقّاد أن جودة ناجح هي من الممثلات القلائل اللاتي حافظن على مستوى ثابت من الأداء طيلة مسيرتهن، دون السقوط في فخ الاستسهال أو التكرار. وهي ممثلة لا تبحث عن الأضواء، بل عن الدور الذي يحترم وعي المتلقي ويضيف له.
 وقد نوه عدد من النقّاد بأدائها في أفلام سلمى بكار، مؤكدين أنها كانت قادرة على تجسيد المرأة التونسية في مختلف أوجهها الاجتماعية والنفسية.

غيابها عن الأضواء... خيار أم ظرف؟

رغم قدراتها اللافتة، لم تحظَ جودة ناجح بالانتشار الإعلامي الذي نالته بعض الممثلات من جيلها. 
ويعود ذلك، حسب المتابعين، إلى ابتعادها الواعي عن الساحة لأسباب شخصية أو فنية، وربما لخيارات إنتاجية لا تتماشى مع طموحاتها. 
لكن هذا الغياب لم يمنع جمهورها من احترامها وتقديرها، بل زاد من قيمتها كممثلة نادرة الظهور، كثيرة التأثير.

الحياة الشخصية والمواقف العامة :

بعيدًا عن الشاشة، تعيش جودة ناجح حياة بسيطة بعيدة عن الأضواء. 
تشتهر بتواضعها والتزامها الأخلاقي، وهي من الفنانات اللاتي نادرًا ما يظهرن في الإعلام للحديث عن حياتهن الخاصة.
لكنها في المقابل نشطة جدًا في دعم قضايا المرأة وحرية التعبير. 
وقد عبّرت مرارًا عن موقفها من السياسة الثقافية في تونس، ودعت إلى دعم الإنتاجات الجادة ومساندة الفنانين الشبان.

التأثير والإرث الفني :

تُعتبر جودة ناجح من الأسماء التي أثّرت في أجيال كاملة من الممثلات، ليس فقط من خلال أعمالها، بل أيضًا من خلال مشاركاتها في ورشات التكوين والتدريب. 
كما ألهمت كتاب الدراما على كتابة شخصيات نسائية مركبة وقوية تستحق أن تجسّدها ممثلة من طرازها.

 مسيرة لا تنسى :

إن مسيرة جودة ناجح، بما فيها من نضج وتنوع وإنسانية، تُبرهن على أن الفن الحقيقي لا يُقاس بعدد الأعمال، بل بعمق الأثر الذي يتركه في الذاكرة الجماعية. لقد كتبت اسمها بين رواد الفن في تونس بأداء صادق، وحضور محترم، ورؤية فنية لا تتنازل عن الجودة. وستظل رمزًا نسائيًا فنيًا في تاريخ المسرح والدراما التونسية.
تعليقات