في ركنٍ ما من الذاكرة الجماعية التونسية، يقف وجه مألوف وابتسامة خفيفة الظل، كأنها خرجت من زوايا حي شعبي بسيط لتعانق الشاشات وتدخل كل بيت.
إنه توفيق البحري، الفنان الذي لم يكن نجماً بمقاييس البريق والترف، لكنه كان أكبر من النجم؛ كان شخصية من لحم ودم، يشبه التونسي في حياته اليومية، في لغته، في نكاته، وحتى في صمته.
لم يُصنع مجده في صالات العرض الكبرى، بل بُني حجراً حجراً في قلوب الناس، بين مسارح الهواة، وأزقة التلفزيون، وبين الكاميرا وخشبة المسرح.
ولد البحري ونشأ في تونس العاصمة، في قلب نسيج اجتماعي بسيط.
لم يكن الطريق إلى الفن مفروشًا بالورود، بل كان مليئًا بالتحديات، وكان عليه أن يثبت نفسه ليس فقط كممثل، بل كصوت يعبّر عن حياة الناس ومعاناتهم وضحكهم.
لقد امتدت مسيرته على أكثر من أربعة عقود، كانت خلالها تجاربه شاهدة على تحولات الفن التونسي، كما ظل دائمًا ذلك الاسم الذي يثير ابتسامة محبّة في كل مرة يُذكر فيها.
البدايات : من مسرح الهواة إلى محترف ركحي
لم يدخل توفيق البحري الفن من أبواب الشهرة أو المصادفة، بل تسلّل إليه عبر عشق دفين بدأ في شبابه، عندما التحق سنة 1969 بمسرح الهواة في دار الثقافة ابن رشيق.
هناك، وبين تجارب الشباب الأولى، بدأ يخطّ ملامح صوته الخاص، صوت الممثل الذي يتقن الإصغاء لحياة الناس وينقلها على الخشبة بصدق دون تصنّع.
مع بداية السبعينات، انخرط في تجربة فنية أكثر نضجاً حين شارك في تأسيس فرقة "المغرب العربي للمسرح"، وهي واحدة من التجارب التي لعبت دورًا مفصليًا في تكوين جيل جديد من الممثلين الملتصقين بالهوية المحلية.
أعمال مثل «الكريطة» و«القافزون» كشفت موهبته المبكرة، وقدرته على تطويع الجسد والصوت واللغة الشعبية لخدمة رسالة مسرحية تعبّر عن المجتمع.
لاحقًا، التحق بفرقة مدينة تونس، وهناك، في فضاء أكثر احترافية، اكتسب توفيق البحري نضجًا إضافيًا.
لم يكن ممثلًا تقليديًا يكرّر نفسه، بل ظل طيلة مشواره يبحث عن التجربة الجديدة، سواء في الشكل أو في المضمون.
وكان من القلائل الذين تمكنوا من الجمع بين الكوميديا والدراما، بين الشخصية البسيطة والرمزية، بين الضحك والسخرية والوجع.
المسرح: بيت الفن الأول
على خشبة المسرح، حيث يواجه الممثل جمهوره مباشرة بلا تكرار ولا مونتاج، عرف البحري كيف يُمسك بتلابيب اللحظة ويجعل منها فنًا حيًا.
شارك في مسرحيات متنوعة، من بينها «جرائم زوجية» لمحمد علي سعيد، و«تمرد» التي كتبها مكي العويد، بالإضافة إلى «ضع نفسك مكاني»، «دار الإخوة» للمنصف ذويب، و«الدنيا فرجة» بإخراج إكرام عزوز.
كل عمل مسرحي خاضه البحري كان يمثل محطة جديدة في تجربته، إذ لم يكن يرضى بأن يُحبس في قوالب مكررة، بل كان يبحث عن شخصيات قادرة على التعبير عن التحولات الاجتماعية، عن هموم الطبقة الوسطى، عن هشاشة الإنسان وعن قدرته الدائمة على التمسك بالأمل، حتى في أقسى اللحظات.
التلفزيون : الباجي ماتريكس وصعود إلى القلوب
ورغم أن المسرح كان انطلاقته الأولى، فإن شهرته العريضة جاءت من التلفزيون، تحديدًا من السلسلة الكوميدية الشهيرة «شوفلي حل»، التي عُرضت بين عامي 2005 و2009.
هناك، من خلال شخصية "الباجي ماتريكس"، عرفه كل تونسي، صغيرًا وكبيرًا.
لعب دور صاحب محل إلكترونيات بشخصية مميزة: ساخر، ثرثار، طيب، فضولي، وقريب جدًا من وجدان الناس.
"الباجي ماتريكس" لم يكن مجرد دور تمثيلي؛ بل تحوّل إلى أيقونة في الثقافة الشعبية، يتداوله الناس في المقاهي والمدارس وحتى في الخطابات اليومية.
صار نموذجًا لشخصية الحي الشعبي، التي تحاول أن تكون "فاهم كل شيء"، لكنها في العمق طيبة وبسيطة.
غير أن مسيرة البحري لم تتوقف عند هذا الدور، فقد شارك في عدد كبير من المسلسلات مثل «عنبر الليل»، «ريحانة»، «ظفاير»، «قمرة سيدي المحروس»، «يعجبكشي»، «دار لوزير» وغيرها.
كان دائم الحضور في رمضان، ودوماً يقدم أدوارًا ترتكز على التلقائية والبساطة دون فقدان العمق الفني.
السينما : حضور متواضع لكن ثابت
في السينما، لم يكن البحري نجم شباك، ولم يلعب أدوار البطولة المطلقة، لكنه كان دومًا ذلك الممثل الذي تراه في مشهد صغير، لكنه يترك أثرًا كبيرًا.
شارك في أفلام مهمة مثل «التلفزة جاية» للمنصف ذويب، «آخر فيلم» لنوري بوزيد، «بستاردو» لنجيب بلقاضي، «نهاية ديسمبر» لمعز كمون، «عطر الربيع» لفريد بوغدير، و*«The Albatross»* في 2021.
غالبًا ما كانت أدواره السينمائية واقعية، تعبّر عن الإنسان التونسي، سواء كان أباً، جارًا، عاملًا، أو مجرد عابر في حياة البطل.
لم يحتج إلى كثير من الكلمات، بل اكتفى بحضوره المتماسك، وإيماءات وجهه التي كانت أحيانًا تقول أكثر من نص كامل.
إنسان خلف الفنان
بعيدًا عن الأضواء، كان توفيق البحري إنسانًا هادئًا، بسيطًا، لا يسعى وراء الأضواء بقدر ما يسعى وراء الأثر. لم يُعرف عنه السجال أو الضجيج الإعلامي، بل عُرف بابتسامته وتواضعه وتواصله العفوي مع الناس.
شهادات زملائه تجمع على أنه كان فنانًا نزيهًا، لا يحمل ضغينة، ويحب الفن من أجل الفن، لا من أجل التصفيق.
ورغم أن شهرته جاءت متأخرة نسبيًا، إلا أنه لم يُظهر يومًا تذمّرًا، بل استمر في العطاء إلى آخر أيامه، كما لو أن الفن هو الشيء الوحيد الذي يمنحه الحياة الحقيقية.
رحيله: نهاية جسد وبقاء أثر
في يوم 18 ديسمبر 2021، رحل توفيق البحري بهدوء، إثر أزمة قلبية مفاجئة عن عمر 69 عامًا.
وقد خلّف خبر وفاته حزنًا عميقًا في الشارع التونسي، ونعته وزارة الشؤون الثقافية بوصفه أحد الأسماء التي ساهمت في تشكيل الوعي الفني التونسي.
شيّع جثمانه من جامع الزهور إلى مقبرة الجلاز، حيث ودّعه جمهور كبير من محبيه، ومن زملائه في الدراما والمسرح.
موته لم يكن فقط رحيل جسد، بل كان غيابًا صعبًا لصوت شعبي، تعوّد الناس أن يجدوه في لحظاتهم الخفيفة، وفي لقطاتهم العائلية أمام التلفاز.
إرثه الفني: الضحكة التي لا تموت
ما يميز تجربة توفيق البحري هو صدقها.
لم يكن ممثلاً يستعرض عضلاته التمثيلية، بل كان يؤدي بعمق داخلي، وكأنّ كل شخصية يتقمصها كانت تعني له شيئًا.
لهذا، لم تكن أعماله مجرد مشاهد تُعرض، بل كانت لحظات صادقة من حياة الناس، تلامسهم، وتحاكيهم، وتعيش معهم.
إرثه لا يتمثل فقط في أشرطة الفيديو، بل في ضحكة عابرة ظلّت محفورة في الذاكرة، وفي جملة شهيرة قالها وهو يؤدي دور الباجي ماتريكس، وفي مشهد صغير على الخشبة كان فيه الإنسان بكل ما فيه من طيبة وتلقائية وصدق.
شهادات من زملائه : فنان صادق وقريب من القلوب
عقب وفاته، عبّر عدد من الفنانين والمخرجين والمثقفين عن حزنهم العميق لرحيل توفيق البحري، ليس فقط لأنه ممثل بارع، بل لأنه كان إنسانًا نادرًا في ميدان يشكو أحيانًا من الأنانية والضجيج الفارغ.
وصفه كثيرون بأنه رجل الظل الجميل، الحاضر دائمًا في الكواليس بروحه الخفيفة ودعاباته الدافئة، والصامت في لحظات الضجيج.
الفنانة كوثر الباردي، التي جمعته بها أعمال كثيرة، تحدّثت عن توفيق الإنسان أكثر من الفنان، مشيرة إلى تواضعه وطيبته وحبّه للمساعدة.
أما المخرج صلاح الدين الصيد، الذي أخرجه في "شوفلي حل"، فاعتبره "كنزاً لم يُكتشف بعد بكامل طاقته"، مشيرًا إلى أن شخصية الباجي ماتريكس لم تكن سوى جزء بسيط من قدراته التمثيلية.
هذا التقدير الكبير الذي حظي به بعد وفاته يكشف أننا أمام فنان لم يكن يسعى إلى الصدارة، بل إلى التأثير، فترك في ذاكرة زملائه حبًا خالصًا، وفي نفوسهم شعورًا بالخسارة الكبرى.
أسلوبه في التمثيل: فن التلقائية والبساطة المعمّقة
تميّز أداء توفيق البحري بخصوصية قلّما نجدها عند ممثلين من جيله؛ فهو لم يكن يعتمد على التمثيل الصاخب أو المبالغ فيه، بل على التلقائية، تلك التي تجعل المشاهد يشعر أن الشخصية حقيقية، وكأنها خرجت من حياته اليومية.
كانت لغته قريبة من الناس، سواء في النطق أو في الأسلوب، وكان يستخدم تعبيرات وجهه بطريقة ذكية توصل الإحساس دون حاجة إلى كثير من الكلام.
لقد فهم البحري منذ بدايته أن الجمهور لا يحب التصنّع، وأن أقصر الطرق إلى القلوب هو الصدق، لذلك كانت شخصياته دائماً مرآةً للمجتمع، تنقل قضاياه بلغة الضحك أحيانًا، وبالمرارة أحيانًا أخرى.
ولعل سرّ قوته يكمن في فهمه العميق لنفسيات الشخصيات التي يؤديها؛ فلم يكن يكتفي بحفظ النص، بل كان يبحث عن تفاصيلها، عن طباعها، عن حركاتها وحتى صمتها، وهو ما جعل أدواره تبقى في ذاكرة المشاهد رغم مرور السنوات.
جمهوره: جمهور لا يعرف الانفصال
من خصائص الفنان الحقيقي أن جمهوره لا ينساه حتى بعد رحيله، وهذا ما ينطبق تمامًا على توفيق البحري.
فقد ظلّت شخصيته "الباجي ماتريكس" تُستعاد كل عام في شهر رمضان عبر الإعادات التلفزية، دون أن يشعر الناس بالملل أو التكرار.
بل إن كثيرًا من الشباب الذين لم يشاهدوه في أعماله المسرحية أو السينمائية المبكرة، اكتشفوه لاحقًا من خلال "شوفلي حل" وسلسلة الأعمال الرمضانية، فارتبطوا به كجزء من وجدانهم الجمعي، مثل قهوة الصباح أو نكتة الجلسات العائلية.
في وسائل التواصل الاجتماعي، لا تزال صفحاته تنبض بالتعليقات الجديدة، يُعاد نشر صوره ومقاطع تمثيله، وتُستذكر جُمله الشهيرة.
وهذا في ذاته مؤشر على أن فنه لم يكن لحظة عابرة، بل كان حالة مستمرة من الحضور، حتى في الغياب.
مكانته في تاريخ الكوميديا التونسية
إذا أردنا أن نُقيّم توفيق البحري من منظور تاريخي، فإننا نجده ضمن السلسلة الذهبية لأسماء رسّخت فن الكوميديا الشعبية في تونس، بجانب أسماء مثل سفيان الشعري، لمين النهدي، وكمال التواتي.
ما ميّزه عن غيره، هو أنه كان دائمًا الممثل الثاني الذي يسرق الأضواء.
لم يكن بالضرورة بطل العمل، لكنه كان من يترك الأثر الأعمق.
لم يحتج إلى مساحات واسعة أو مونولوجات طويلة، بل كانت جملة واحدة منه، مرفوقة بنظرة ذكية أو تعبير وجه ، كفيلة بأن تُضحك المشاهد وتبقى في ذهنه سنوات.
ولذلك، فمكانته ليست فقط مكانة نجم كوميدي، بل مكانة ممثل مدرسي بالفطرة، بنى جسره مع الجمهور لا بالاستعراض، بل بالبساطة المتقنة، وهو ما جعله من المؤثرين في شكل الكوميديا المحلية وتطورها.
الحياة الخاصة: بين الأسرة والهدوء
رغم شهرته، بقي توفيق البحري متحفظًا عن حياته الشخصية.
كان يُفضل أن يبقى حديثه عن الفن، ويترك عائلته وحياته الخاصة بعيدًا عن الأضواء.
لكنه كان، كما يشهد المقربون منه، ربّ عائلة حنونًا، محبًا لأولاده، مهتماً بكل تفاصيل حياتهم.
كان يقسّم وقته بين التصوير، والقراءة، والجلوس مع أصدقائه في المقهى، حيث ينسجم مع الناس، يتحدث معهم بعفوية، وكأنه واحد منهم، بلا تكبّر ولا تصنّع.
لم يعرف حياة البذخ، بل بقي يعيش ببساطة، ويعامل من حوله باحترام، ما زاد من حب الناس له.
رحل لكنه دائما في القلوب
رحل توفيق البحري في صمت، كما عاش دائمًا ببساطته واتزانه، دون صخب ولا استعراض.
لكنه لم يكن يومًا غائبًا عن قلوب الناس، ولا عن ذاكرة الفن التونسي.
فالكاميرا التي التقطته وهو يُضحك الملايين، لا تزال تدور كل عام، تعرض ملامحه، صوته، وحركاته التي باتت مألوفة كأنها جزء من أفراد العائلة.
لم يكن مجرد ممثل يؤدي دورًا، بل كان حالة إنسانية صادقة، تنعكس فيها ملامح مجتمع بأسره، وهمومه، وضحكاته، وتفاصيله الصغيرة.
واليوم، بينما نُقلّب في أرشيف أعماله، لا نبحث فقط عن الترفيه، بل عن الأثر، عن تلك اللمسة الصادقة التي تجعل من الفن مرآةً للحياة. توفيق البحري، وإن انطفأ جسده، فإن حضوره سيبقى، تمامًا كما يُقال في الأثر: "بعض الناس لا يغيبون… بل يتحوّلون إلى ذاكرةٍ حيّة، نُصادفها كلما احتجنا إلى معنى الدفء، والبساطة، والضحكة الصافية."