في سجل الأغنية التونسية، ثمة أسماء خلدها التاريخ بأحرف من ذهب، لكن قلة منها استطاعت أن تترك أثراً لا يُمحى في الذاكرة الثقافية والفنية للشعب التونسي، بل والعربي بأسره.
من بين هؤلاء، يبرز اسم علي الرياحي، الفنان الذي لم يكن مجرد صوت جميل، بل حالة فنية استثنائية ومتكاملة، تمثلت في كاريزما خاصة، حضور مسرحي طاغٍ، وإحساس فني عميق استطاع من خلاله أن ينقل المشاعر التونسية ببساطة وصدق وعذوبة، لتصبح أغانيه جزءاً من الذاكرة الجماعية للأمة.
ولد علي الرياحي في زمن كانت فيه تونس تمر بتحولات اجتماعية وثقافية عميقة، وسط زخم من التيارات الموسيقية المحلية والأجنبية.
ورغم هذا التنوع، استطاع هذا الفنان الاستثنائي أن يبني لنفسه مساراً خاصاً، يجمع بين الأصالة والحداثة، وبين الجذور التونسية العميقة والتأثيرات المشرقية الراقية.
ولعل أبرز ما ميّز مسيرته هو قدرته النادرة على تجديد الأغنية التونسية دون أن يفقدها طابعها التراثي الأصيل، وعلى مخاطبة جمهور واسع من مختلف الطبقات والأعمار، بفضل تنوع أعماله وعمق اختياراته الموسيقية.
لم يكن علي الرياحي مجرد مطرب يؤدي أغانٍ من تأليف وتلحين غيره، بل كان في كثير من الأحيان مشاركاً فعالاً في صياغة النصوص، وفي اختيار الألحان، وفي توجيه التوزيع الموسيقي، مما جعله يُعدّ من أوائل الفنانين الذين فهموا أهمية "الفنان الشامل".
كما ارتبط اسمه بأشهر الأسماء في عالم الموسيقى التونسية من ملحنين وشعراء، وأدخل إلى الريبرتوار التونسي مجموعة من الأغاني التي أصبحت تُتداول عبر الأجيال، دون أن تفقد من بريقها شيئاً.
النشأة والبدايات :
ولد علي بن عياد، المعروف فنياً باسم علي الرياحي، في 30 مارس 1912 في مدينة تونس، وتحديداً في حي "باب سويقة" العريق، وسط عائلة ذات ميول فنية وثقافية.
برزت موهبته الغنائية منذ طفولته، حيث كان يعشق الاستماع إلى التواشيح الدينية والموشحات الأندلسية، بالإضافة إلى الأغاني الشعبية التونسية، وكان يقلّد الأصوات الشهيرة آنذاك.
تلقى تعليماً تقليدياً وتعلّم تلاوة القرآن الكريم، قبل أن يتجه لاحقاً إلى تعلم الموسيقى بشكل أكاديمي، حيث درس في المعهد الرشيدي للموسيقى، وتتلمذ على يد نخبة من الأساتذة التونسيين والعرب، وهو ما ساعده على بناء خلفية موسيقية قوية ومتنوعة.
البروز الفني والتألق :
في أربعينيات القرن الماضي، بدأ علي الرياحي في تسجيل أولى أغانيه، وبدأ اسمه يلمع في الساحة الفنية التونسية. عُرف بصوته الدافئ، وقدرته على الأداء بمختلف الطبوع التونسية مثل المالوف، والطرابلسي، والسطمبالي، وأيضاً الطابع المصري الكلاسيكي، مما جعله فناناً جامعاً بين الأصالة والانفتاح.
خصائص صوته وأسلوبه :
تميز علي الرياحي بصوت جهوري ومرن، استطاع من خلاله أداء مختلف الألوان الموسيقية، من الرومانسي إلى الشعبي، ومن الطرب الأصيل إلى الأغنية الخفيفة.
كما كان يتمتع بكاريزما على المسرح، وقدرة على التفاعل مع الجمهور، مما جعله نجم الحفلات الكبرى في تونس وخارجها.
أعماله الغنائية :
أثرى علي الرياحي الساحة الفنية التونسية والعربية بعدد هائل من الأغاني التي أصبحت من التراث الموسيقي التونسي، نذكر منها :
"آه يا للا"
"بنت السلطان"
"يا قلبي تهنى"
"محلاها عيشة الأحباب"
"قمر الزمان"
"الليلة عيد"
"غني يا قمري"
"يا زهرة"
"عندي مشكلة"
"يا وردة"
كما قام بإعادة توزيع عدد من الأغاني التراثية وتقديمها بصوته بطابع جديد، ما ساهم في إعادة إحياء التراث الغنائي التونسي في صيغ حديثة.
تعاونه مع كبار الملحنين والشعراء :
تعاون علي الرياحي مع كبار شعراء وملحني عصره في تونس، مثل:
محمد التريكي
صالح المهدي
الهادي الجويني
حسيب القروي
عبد العزيز العروي
وكان يتمتع بحس موسيقي فني جعله أحياناً يقوم بتلحين بعض أغانيه بنفسه.
كما أنه أبدع في أداء الأغاني ذات البعد الشعبي والفلكلوري، ما جعله مقرباً من وجدان التونسيين.
حياته خارج الفن :
بالرغم من شهرته الفنية، عاش علي الرياحي حياة بسيطة، وكان معروفاً بتواضعه وتعلقه بالعادات التونسية الأصيلة.
لم ينخرط في السياسة، بل اكتفى بدور الفنان الملتزم بقضايا شعبه وثقافته، وكان يُنظر إليه كشخص وطني غيور على بلده.
انتشاره العربي والدولي :
لم تقتصر شهرة علي الرياحي على تونس فقط، بل وصل صيته إلى عدد من الدول العربية مثل الجزائر، المغرب، ليبيا، ومصر، حيث أقام حفلات ناجحة، وسجل أغاني بالإذاعات العربية.
كما مثل تونس في عدد من التظاهرات الثقافية الدولية.
السينما والتلفزيون :
رغم أنه لم يكن ممثلاً بالمعنى التقليدي، إلا أن علي الرياحي شارك في بعض الأفلام والمسلسلات الإذاعية، سواء من خلال أدوار صغيرة أو عبر موسيقى تصويرية وأغانٍ أدّاها خصيصاً للأعمال الفنية.
تكوينه الموسيقي وثقافته الفنية :
لم يكن علي الرياحي فنانًا فطريًا فقط، بل كان أيضًا مثقفًا موسيقيًا يمتلك تكوينًا أكاديميًا متينًا.
فقد تلقى تكوينه في المدرسة الرشيدية، وهي واحدة من أعرق المؤسسات الموسيقية في تونس، وهناك درس أصول المالوف والمقامات الشرقية والعزف على العود، وتعرّف على قواعد التلحين والصياغة الموسيقية.
هذا التكوين العميق ساعده على تطوير أدواته الفنية وصقل صوته، كما منحه حرية أكبر في اختيار النصوص والألحان، وجعله قادراً على التفاعل مع الأشكال الموسيقية المختلفة بوعي وجدارة.
تأثيره في المشهد الفني التونسي :
يُعدّ علي الرياحي أحد رواد تحديث الأغنية التونسية في منتصف القرن العشرين، حيث ساهم في تطوير الشكل الغنائي المحلي وإخراجه من القوالب التقليدية الجامدة، دون أن يفقده هويته.
كما كان له دور كبير في نقل الأغنية التونسية من الإطار المحلي إلى الأفق العربي الأوسع، بفضل حفلاته وجولاته الفنية في عدد من البلدان العربية، خصوصًا الجزائر، والمغرب، وليبيا، ومصر.
كما ألهم العديد من الفنانين الشباب في تونس، وفتح أمامهم أبواب التجريب والجرأة الفنية، ما جعله يُعتبر بمثابة مدرسة فنية قائمة بذاتها، سواء من حيث الغناء أو الأداء أو التعامل مع الجمهور.
شخصيته الإنسانية وسلوكه اليومي
عرف عن علي الرياحي تواضعه الشديد وقربه من الناس، فكان يحب الحديث مع جمهوره ويُصغي لملاحظاتهم ويبادلهم الاحترام، مما زاد من شعبيته وأكسبه محبة فئات واسعة من التونسيين.
كما كان مولعًا بالحياة البسيطة، بعيدًا عن الأضواء الصاخبة، ويفضل البقاء وسط عائلته وأصدقائه في جلسات يغلب عليها الطابع التونسي الأصيل من موسيقى وضحك وسمر.
علاقته بالإذاعة والتسجيلات
مثلت الإذاعة التونسية منبرًا أساسيًا في مسيرة علي الرياحي، حيث كانت الوسيط الأبرز لنقل فنه إلى كل مناطق البلاد.
سجّل العشرات من الأغاني في استوديوهات الإذاعة، وكان من أوائل الفنانين الذين استغلوا التقنية الحديثة آنذاك لنشر أعمالهم.
وقد ساهمت هذه التسجيلات في تثبيت عدد من أغانيه كروائع خالدة لا تزال تُذاع حتى اليوم.
رؤيته الفنية وانفتاحه على التجديد
امتلك علي الرياحي رؤية فنية واضحة، تقوم على احترام التراث والانفتاح على الحداثة، وهو ما دفعه إلى خوض تجارب موسيقية متعددة.
جرب الطابع المصري في بعض أغانيه، كما وظف الإيقاعات المغاربية، وأبدع في التنويع بين القصيدة والأغنية الخفيفة. هذه المرونة جعلت فنه دائم التجدد وقابلاً للتطور، وأكسبه استمرارية وخلودًا نادرًا.
الجانب المسرحي في شخصيته الغنائية
لم يكن علي الرياحي مغنيًا فقط، بل كان أيضًا صاحب حضور مسرحي فريد.
كان يعرف كيف يقف على الخشبة، وكيف يتفاعل مع جمهوره، وكيف ينقل المشاعر من خلال حركاته وتعابيره، وهو ما أضفى على حفلاته طابعًا استثنائيًا.
وكان يعتبر أن الغناء ليس فقط صوتًا جميلاً، بل أداءً متكاملاً يشمل الصوت، والنص، والموسيقى، والحركة.
الوفاة والرحيل المفاجئ :
توفي علي الرياحي بشكل مفاجئ في 17 مارس 1970 عن عمر ناهز 58 عاماً، إثر نوبة قلبية، أثناء استعداده لتقديم إحدى حفلاته الغنائية.
وقد شكلت وفاته صدمة في الوسط الفني التونسي والعربي، ونعاه عدد كبير من الفنانين والجمهور، وشيّع في جنازة وطنية مهيبة.
أثره بعد رحيله
بعد وفاته سنة 1970، لم تخفت أضواء علي الرياحي، بل تحوّل إلى رمز وطني وفني.
جيلٌ بعد جيل، تتناقل العائلات التونسية أغانيه وتُرددها في الأفراح والمناسبات، وكأن صوته لا يزال حيًا بين الناس.
ولا تزال سيرته تُروى في البرامج الوثائقية، والندوات الموسيقية، وتُدرّس أعماله في المعاهد الموسيقية باعتبارها نماذج راقية في فن الغناء العربي.
الإرث والتكريم :
رغم مرور أكثر من خمسين عاماً على رحيله، لا تزال أغاني علي الرياحي حية في وجدان التونسيين، وتُبث على الإذاعات والمحطات التلفزيونية، كما تُدرس في بعض معاهد الموسيقى كتجارب فنية نموذجية.
تكريمات بعد وفاته :
إطلاق اسمه على عدد من الشوارع والمؤسسات الثقافية.
تنظيم تظاهرات موسيقية باسمه، مثل "مهرجان علي الرياحي".
إصدار أسطوانات تحوي أرشيف أغانيه.
تكريمه من قبل وزارة الثقافة التونسية في مناسبات عدة.
يبقى علي الرياحي أحد أهم رموز الفن التونسي، فناناً بصوت لا يُنسى، وحضور طاغٍ، ورسالة فنية أصيلة.
لم يكن مجرد مطرب، بل كان مدرسة فنية كاملة ساهمت في ترسيخ الهوية الموسيقية التونسية الحديثة، وجعلت منه أيقونة وطنية تستحق كل تقدير واعتزاز.