في ذاكرة التونسيين، هناك أسماء لا تُذكر إلا مصحوبة بشيء من الحنين، شيء من العشق، وشيء من الانتماء الثقافي العميق.
من بين هذه الأسماء، يبرز الهادي الجويني كرمز موسيقي استثنائي، لا فقط لأنه غنّى وألّف، بل لأنه اختار أن يكون لسان الناس، صوت الأحياء الشعبية، نبض الأزقة، وهمس العشاق، وضحكة الأطفال في أعيادهم.
هو الفنان الذي مزج بين ثقافته الشعبية العميقة، وانفتاحه على العالم، فصنع من ذلك صوتًا موسيقيًا مميزًا، لا يشبه سواه، صوتًا يستطيع أن ينقلنا من أزقة باب سويقة إلى سهرات النخبة في تونس العاصمة، ومن أسطح المنازل في حلق الوادي إلى مسارح مصر ولبنان.
لم يكن الجويني مجرّد مغنٍ أو ملحن أو كاتب كلمات، بل كان فنانًا شاملاً، يحمل في داخله مشروعًا فنّيًا وطنيًا، يدافع فيه عن الهوية التونسية ويؤصّلها موسيقيًا.
أغانيه لم تكن مجرد ألحان تُغنّى، بل كانت وثائق شعبيّة نابضة بالحياة، تنقل عادات الناس، لهجاتهم، أحاسيسهم، وحتى طريقتهم في الحب والحنين والفرح والوجع. الهادي الجويني لم يُكرّس نفسه للبحث عن النجومية العابرة، بل اختار أن ينقش اسمه في أعماق الوجدان الجمعي التونسي، حيث لا تنطفئ الأغاني، ولا يُنسى أصحابها.
من باب سويقة إلى وجدان الشعب: البدايات التي صنعت فنانًا كبيرًا
وُلد الهادي الجويني في الثالث والعشرين من مارس سنة 1909 بحي باب سويقة في قلب العاصمة التونسية، وهو حيّ عتيق يعبق بالتاريخ، ويُعتبر منبعًا للثقافة الشعبية والهوية التونسية.
نشأ الجويني في وسط اجتماعي بسيط، حيث كان لكل زاوية صوت ولكل ركن حكاية، وتفتّحت حواسه على وقع أهازيج الأعراس الشعبية، وأصوات الدراويش، وترانيم الموشحات، والموسيقى الأندلسية، وأغاني البحّارة والحرفيين.
لقد كانت هذه البيئة الصاخبة بالأصوات والأنغام، بمثابة المدرسة الأولى التي علّمته جماليات السمع، وقدرة اللحن على التسلّل إلى الروح.
ومنذ نعومة أظفاره، أبدى الطفل الهادي شغفًا استثنائيًا بالموسيقى، فبدأ يتعلم العزف على آلة العود بشكل عفوي، ثم التحق فيما بعد بـالمعهد الرشيدي للموسيقى، حيث تلقى تكوينًا أكاديميًا مكّنه من التعمّق في أسرار المقامات الشرقية والموسيقى التونسية التقليدية.
هذه المرحلة كانت مفصلية في حياته، إذ جمعت بين الموهبة الفطرية والتكوين المنهجي، ومن خلالها بدأ في بناء شخصية موسيقية فنية متفرّدة، لا تكتفي بتقليد الموروث بل تُعيد إنتاجه بروح جديدة.
من التكوين إلى الإبداع : ولادة تجربة موسيقية متفردة
في فترة الثلاثينات، بدأ الجويني خطواته الأولى نحو الاحتراف، لكنه لم يكن فنانًا تقليديًا يسير على خُطى من سبقوه، بل اختار أن يكتب لنفسه مسارًا فنيًا خاصًا.
كان ملحنًا، مؤلفًا، شاعرًا غنائيًا، ومطربًا في الوقت ذاته، وامتلك قدرة نادرة على الجمع بين هذه المهارات جميعًا. في تلك الفترة، بدأ الجويني في إدخال لهجة الشارع التونسي إلى الأغنية، وجعلها رشيقة، عذبة، وموسيقية، دون أن يُفرّط في قيمتها الفنية.
كتب ولحّن لنفسه ولغيره، وكانت كل أغنية تحمل بصمته الخاصة، من ناحية الإيقاع والموضوع والمعالجة اللغوية والدرامية.
ومع صعود الإذاعة الوطنية التونسية، وجدت أغانيه صدى واسعًا بين الجماهير.
كان من أوائل الفنانين الذين فهموا أهمية أن تكون الأغنية قصيرة، مشحونة بالعاطفة، وواضحة من حيث الموضوع والمغزى.
غنّى الجويني للحب، وللأم، وللوطن، وللحنين، وللناس البسطاء.
وقدّم أغاني لا تزال حيّة حتى اليوم مثل: "لاموني" "تحت الياسمينة" "سمراء" "تبعني نبنيو الدنيا زينة" "عليك نغني" "مفتون" "الي تعدى وفات" "حبي يتبدل يتجدد".
هذه الأغاني تجاوزت كونها أعمالًا فنية لتُصبح جزءًا من التراث الجمعي، تُتداول في الأعراس، والمناسبات، والمهرجانات، والإذاعات، وكأنها كتبت أمس، رغم مرور العقود.
تعدّد الأدوار الفنية: من الأغنية إلى المسرح والسينما والإذاعة
لم يكن الهادي الجويني فنانًا نمطيًا يُقصر نشاطه على الغناء والتلحين، بل كان له حضورٌ لافت في مجالات فنية متعدّدة، فقد شارك في عروض مسرحية ذات طابع غنائي، كما وضع ألحانًا لأعمال مسرحية وإذاعية ظلت خالدة في ذاكرة الجمهور التونسي.
كان الجويني من أوائل من أدركوا قوة الإذاعة كوسيط فني، فاستغلها لنشر أعماله، وشارك في إنتاج عدد من البرامج الموسيقية والمسرحيات الإذاعية.
أما في السينما، فقد شارك في بعض الأدوار الثانوية بأفلام تونسية، لم يكن هدفه منها النجومية السينمائية، بل اعتبرها امتدادًا لمسيرته الفنية، وحالة تعبير أخرى عن ذاته وعن مجتمعه. ومع ذلك، ظل وفاؤه الأكبر للأغنية، التي اعتبرها المجال الأصدق للتعبير عن روح الشعب، وهواجس الناس، وعواطفهم.
مدرسة الجويني: التأثير والإرث والمكانة
يُعدّ الهادي الجويني من روّاد الموسيقى التونسية الحديثة، وقد ترك تأثيرًا واضحًا على أجيال كاملة من الفنانين التونسيين والعرب.
شكّل ما يُعرف اليوم بـ"المدرسة الجوينية"، وهي مدرسة تُؤمن بقيمة البساطة، وتُكرّس للهوية المحلية، لكنها لا تنغلق على التأثيرات الخارجية، بل تستوعبها وتُعيد تشكيلها تونسيًا.
تأثّر به فنانون كبار مثل محمد الجموسي، علي الرياحي، صليحة، نعمة، لطفي بوشناق، وصابر الرباعي، سواء من خلال إعادة غناء أعماله، أو الاستلهام من أسلوبه في التلحين والأداء.
وقد حاول كثيرون تقليده، لكن قليلين من استطاعوا الاقتراب من عمق تجربته.
كان الجويني يُلحن بأحاسيسه، لا بمعادلات موسيقية فقط، وكانت ألحانه تشبه الحارة التي نشأ فيها، والناس الذين أحبّهم، والأمكنة التي سكنها في وجدانه.
تأثيره خارج تونس: صدى الجويني في المشرق والمغرب
رغم أن الهادي الجويني لم يسعَ إلى الشهرة خارج حدود تونس، إلا أن صوته وإبداعه تجاوزا البحر والصحراء، ليصل إلى آذان عربية من المحيط إلى الخليج.
فقد ذاع صيته في الجزائر والمغرب، حيث كان يُستقبل كأحد أعمدة الأغنية المغاربية، واعتُبرت موسيقاه تمثل أصالة شمال أفريقيا، لكنها في الوقت نفسه تحمل عناصر حداثة جعلتها محببة للمشارقة أيضًا.
زارت أعماله مصر ولبنان من خلال البث الإذاعي المشترك في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وتداولها فنانون وموسيقيون شرقيون باهتمام، خصوصًا لقدرته على خلق توازن بين الإيقاع واللحن.
كما أن بعض الصحف اللبنانية والمصرية أشارت إلى "المدرسة التونسية" في الغناء بقيادة الجويني، خصوصًا في فترة كان فيها الطرب العربي مهيمنًا على الأذواق، وأتى الجويني ليقدّم نموذجًا آخر للغناء "غير القاهري"، لكنه لا يقل جودة ولا رقيًا.
كما تُرجم عدد من أغانيه إلى الفرنسية، وغنّاها فنانون تونسيون يعيشون في فرنسا، وشارك في سهرات فنية هناك في بداية السبعينيات.
ويمكن القول إن الجويني، دون أن يسافر كثيرًا، كان سفيرًا موسيقيًا لتونس بامتياز.
نظرته إلى الفن : الموسيقى رسالة ومسؤولية
كان الهادي الجويني ينظر إلى الفن كمشروع وطني وإنساني في الآن ذاته.
لم يكن يراه تسلية فقط، بل رسالة تنويرية وثقافية.
في عدد من لقاءاته النادرة، كان يصرّ على أن الأغنية ليست وسيلة للربح أو الشهرة فحسب، بل هي أداة لتربية الذوق، وحفظ الهوية، وتوثيق المشاعر الشعبية.
ولهذا السبب كان دقيقًا جدًا في اختياراته، سواء على مستوى الكلمات أو الألحان أو الأداء.
رفض الجويني لسنوات طويلة أن ينساق وراء الأغنية التجارية، ولم يكن يغني شيئًا لا يُشبهه.
كان يكتب نصوصه برويّة، ويُعيد صياغة بعض المقاطع عشرات المرات، ويجرب اللحن على أكثر من آلة حتى يصل إلى "التوازن المثالي"، كما كان يسميه.
هذه النظرة جعلته في نظر كثيرين "فنانًا ملتزمًا" دون أن يكون سياسيًا، لأنه التزم بالفن من حيث هو مسؤولية ثقافية، وليس مجرد استعراض.
علاقاته بالفنانين: احترام متبادل وغيرة نبيلة
كان الجويني شخصية تحظى باحترام كبير داخل الوسط الفني، رغم أنه لم يكن اجتماعيًا بطبعه.
علاقاته مع زملائه الفنانين اتّسمت بالاحترام المتبادل، وكان يُثني على مواهب الآخرين دون تحفظ، لكنه لم يكن منخرطًا في حلقات المجاملات.
أشاد بمحمود السهيلي، ومحمد الجموسي، وعلية، وصرّح ذات مرة أن "صوت علية فيه حزنٌ يشبه الغروب"، وهي من أجمل ما قيل عن صوتها.
من جهة أخرى، كانت بينه وبين عدد من الفنانين الشبان علاقة توجيه، حيث ساعدهم على تحسين اختياراتهم الفنية، دون أن يفرض رأيه.
وقد اعترف به العديد من الموسيقيين المعاصرين كأحد أهم المرجعيات في تاريخ الأغنية التونسية.
كما ألّف عدد من الباحثين الجامعيين رسائل ماجستير ودكتوراه حول تجربته، خصوصًا حول البُعد السمعي للنص، وبنية اللحن في أغانيه، ودوره في صياغة "الهوية الموسيقية التونسية الحديثة".
الوداع الأخير... ورحيل لا يُنسى
توفي الهادي الجويني يوم 30 نوفمبر 1990 بعد مسيرة فنية استمرت لأكثر من خمسة عقود، مسيرة حافلة بالإبداع والتجديد والوفاء لفنّه وجمهوره.
رحل في صمت، لكنه بقي في القلوب. أجيال وُلدت بعد وفاته لا تزال تحفظ أغانيه، وتُرددها كأنها كُتبت اليوم، وهو ما يدل على عمق تأثيره، وصدق إبداعه، ومدى ارتباطه بالذاكرة الشعبية والثقافة الوطنية.
إرث الجويني : مدرسة ما تزال تُدرّس
بعد وفاته، لم ينتهِ الحديث عن الهادي الجويني، بل ازداد زخمًا.
فقد تحوّل إلى نموذج يُدرّس في المعاهد الموسيقية التونسية، باعتباره رائدًا في المزج بين الأصالة والحداثة. وتُعتبر أغنياته اليوم مادة تحليل موسيقي وأدبي، حيث تُدرّس أعماله ضمن مقررات الثقافة الموسيقية في تونس وخارجها، لما فيها من تنوّع مقامي وإيقاعي، وقدرة تعبيرية فريدة.
إعادة غناء أعماله : حين تبقى الألحان خالدة رغم رحيل صاحبها
رغم مرور عقود على رحيل الهادي الجويني، لا تزال أغانيه حيّة ومتجددة، تُعاد بصوت أجيال جديدة من الفنانين التونسيين والعرب، ممّا يُثبت أن موسيقاه لم تكن مرتبطة بزمنها فقط، بل تجاوزت ذلك إلى الخلود الفني. فنانين مثل لطفي بوشناق، صابر الرباعي، محمد الجبالي، زياد غرسة وغيرهم، أعادوا تقديم بعض من روائعه، مثل "أم الزين الجمالية"، "لاموني الي غاروا مني" "سمراء يا سمراء" بأصواتهم وبأساليب توزيع جديدة، دون أن يُفقدوها روحها الأصلية.
تُعد إعادة غناء هذه الأعمال نوعًا من الوفاء الفني والاعتراف بقيمة الجويني كأحد رواد الأغنية التونسية. وقد تم تسجيل بعض هذه النسخ في مناسبات وطنية ومهرجانات رسمية، مما زاد من رمزية الأغاني وأعادها إلى الواجهة، خاصة لدى الأجيال الشابة التي لم تعاصر الجويني.
وتكمن قوة هذه الإعادات في أنها تُثبت أن الأغنية التونسية، كما صاغها الجويني، قادرة على التجدد دون أن تفقد نكهتها.
فهي تتكئ على عمق شعبي، لكنها تحتمل المعالجة الحديثة، سواء من حيث التوزيع أو الأداء، وهذا ما يُميز الأعمال العظيمة التي لا تُستهلك بمرور الزمن.
الهادي الجويني... فنان كتب تونس بموسيقى لا تموت
ليس سهلًا أن تُلخّص تجربة الهادي الجويني في مقال، ولا في كتاب حتى، هو أكبر من مجرد مغنٍ أو ملحن، هو هوية موسيقية، صوت وطن، وذاكرة حيّة.
غنّى للحب فصدقه العشّاق، وغنّى للحياة فآمن به الناس، وغنّى للمدينة فأحبّته المدن.
وبين كل أغنية وأخرى، كان يكتب فصلًا جديدًا من تاريخ الأغنية التونسية.
ترك لنا رصيدًا لا يُقاس بعدد الألحان، بل بعدد المشاعر التي خلقها، وعدد القلوب التي خفقت بصوته، وعدد المرات التي صرخنا فيها "آه يا للا" من فرط الجمال والصدق.