لطالما أنجبت الساحة الفنية التونسية أسماء لامعة طبعت المشهد بأدائها المتميز، لكن قلة هم من استطاعوا أن يتحولوا إلى رموز حقيقية للفن، ليس فقط من خلال أعمالهم، بل أيضًا من خلال حضورهم، تأثيرهم، ورؤيتهم العميقة للفن كرسالة. ومن بين هذه الأسماء يبرز نور الدين بن عياد، الممثل القدير الذي صقل موهبته على خشبة المسرح وأثرى الدراما التونسية بروح فنية صادقة وملتزمة، قبل أن يغيب لسنوات طويلة تاركًا وراءه فراغًا كبيرًا وتساؤلات عديدة.
مسيرة فنية غنية بالأدوار المتنوعة :
بدأ نور الدين بن عياد مسيرته في عالم الفن من بوابة المسرح، تلك المدرسة الصارمة التي لا تعترف إلا بالمواهب الحقيقية.
تألق في عدد من المسرحيات التي جمعت بين العمق الفكري والبُعد الإنساني، فاستطاع أن يفرض نفسه كممثل من الطراز الرفيع، يمتلك قدرة استثنائية على تجسيد الشخصيات المعقدة والمتنوعة، بحضور طاغٍ على الخشبة وصوت مميز مليء بالتعبير.
انتقل بعد ذلك إلى عالم الدراما التلفزيونية والسينمائية، وشارك في عدد من الأعمال التي ما زالت راسخة في ذاكرة المشاهد التونسي.
كان حضوره قوياً، أداءه متقناً، وقراءته للنصوص ذكية، وهو ما جعله يحظى باحترام كبار المخرجين والنقاد، فضلًا عن حب الجمهور.
أسلوب خاص وصوت داخلي يميزانه :
نور الدين بن عياد ليس مجرد ممثل يؤدي أدوارًا مكتوبة على ورق، بل هو فنان يعيش الشخصية بكل جوارحه. يبحث في أعماقها، يحلل خلفياتها النفسية والاجتماعية، ويقدمها للمشاهد بشكل يجعلها حقيقية إلى درجة التماهي. لا يعتمد على الإبهار أو المبالغة، بل يراهن على البساطة والصدق، وهو ما جعله قريبًا من قلوب المتفرجين.
غياب طويل... وصمت مليء بالأسئلة :
رغم هذا المسار الحافل، اختفى نور الدين بن عياد عن الساحة الفنية لسنوات طويلة.
كان غيابه مفاجئًا ومربكًا للكثيرين من محبيه وزملائه في الوسط.
بعضهم اعتبره اعتزالًا غير معلن، وآخرون رأوا فيه موقفًا فنيًا أو احتجاجًا صامتًا على وضع ثقافي لم يعد يحتضن المبدعين الحقيقيين.
والواقع أن هذا الغياب أثار الكثير من علامات الاستفهام، لا سيما في ظل غياب تصريحات رسمية منه تشرح الأسباب.
هل هو تهميش مقصود؟ هل فقد الإيمان بالمشهد الفني الراهن؟ أم أنه اختار العزلة كفنان حقيقي لا يقبل أن يكون مجرد اسم في لائحة أعمال تجارية سطحية؟ مهما كانت الأسباب، فإن الغياب كان طويلاً ومؤلمًا، وترك فراغًا لم يُملأ.
فنان مثقف، صادق، ومخلص لفنه :
المقربون من نور الدين بن عياد يعرفون أنه فنان مثقف، قارئ نهم، ومتابع دقيق لما يحدث في الساحة الفنية والسياسية.
لم يكن يومًا باحثًا عن الشهرة أو الأضواء، بل كان يؤمن أن الفن رسالة ومسؤولية.
ولهذا، ربما، اختار الابتعاد حين شعر أن المسافة بين الفن الأصيل والتجارة الترفيهية قد اتسعت.
جوائز وتكريمات مستحقة :
لم يكن النجاح الذي حققه نور الدين بن عياد مجرد اعتراف جماهيري، بل تُوّج أيضًا بعدد من الجوائز والتكريمات التي نالها تقديرًا لموهبته وجهوده في خدمة الفن. فحصل خلال مسيرته على جوائز من مهرجانات مسرحية مرموقة داخل تونس وخارجها، كما كُرِّم في مناسبات ثقافية عديدة كشخصية أثّرت في المشهد الثقافي. ورغم تواضعه المعروف، كان دائم الامتنان لمثل هذه الالتفاتات، لأنها تعكس في نظره تقديرًا للفن الجاد، لا للمظاهر والنجومية الزائفة.
فنان مكوِّن ومُلهم :
من الجوانب التي لا يمكن إغفالها في شخصية نور الدين بن عياد، هو دوره التربوي في تكوين أجيال جديدة من الممثلين.
فقد اشتغل كمؤطر ومكوِّن في عدد من الورشات المسرحية، وساهم في تدريب الشباب على أسس التمثيل الصحيح، مع التركيز على الأداء الصادق والتحكم في أدوات الممثل.
كان حريصًا على نقل تجربته وخبرته، مؤمنًا بأن الفنان الحقيقي عليه أن يزرع الأمل ويُنير الطريق للآخرين، لا أن يحتكر الأضواء.
مكانته في ذاكرة الجمهور :
رغم مرور السنوات وابتعاده عن الساحة، إلا أن الجمهور التونسي لا يزال يذكر نور الدين بن عياد بحب وتقدير. كثيرون يسترجعون مشاهد خالدة له على المسرح أو الشاشة، ويتداولون عباراته القوية أو مشاهده التي أثّرت فيهم. فهناك ممثلون يمرون مرور الكرام، وهناك من يتركون أثرًا لا يُنسى، ونور الدين بن عياد من دون شك ينتمي إلى الفئة الثانية.
فهو من الفنانين الذين لا يُمكن تعويضهم بسهولة، لأنه حمل الفن في وجدانه، وقدمه كرسالة، لا كوسيلة للشهرة.
رؤية فنية مختلفة وموقف صريح من الواقع الثقافي :
لطالما عبّر بن عياد، في مناسبات نادرة، عن رؤيته للوضع الثقافي والفني في تونس.
كان من الأصوات القليلة التي انتقدت بجرأة التراجع في قيمة العمل الفني، وهيمنة منطق السوق والإنتاج التجاري على حساب الجودة والمضمون.
اعتبر أن الفنان لا يجب أن يكون تابعًا، بل يجب أن يكون صاحب موقف، وأن يتحمل مسؤولية توجيه الوعي العام والدفاع عن القيم الجمالية والإنسانية.
بالنسبة له، المسرح ليس مجرد تسلية، بل هو مساحة للمواجهة والتفكير، ومجالٌ يجب أن يحترم عقل المتفرج ويثير تساؤلاته.
وربما كان هذا الموقف من الأسباب التي جعلته ينسحب أو يبتعد، لأنه لم يعد يجد نفسه في مشهد فني يتراجع فيه الذوق العام وتُهمّش فيه الطاقات الجادة.
عودة منتظرة... وحنين الجمهور
اليوم، وبعد سنوات من الغياب، لا يزال اسمه يتردد كلما تحدثنا عن الأصالة والعمق في التمثيل.
الجمهور لا يزال يتساءل : متى يعود نور الدين بن عياد؟ وهل يفكر في العودة؟ أم أن الصمت أصبح خياره الأخير؟
الجميع يحن إلى تلك الأدوار التي جسدها بإحساس عالٍ، إلى تلك النظرة العميقة التي كانت تنقل أكثر مما يقول النص، وإلى ذلك الصوت الذي كان يحمل صدقًا لا يمكن تقليده.
يبقى نور الدين بن عياد، رغم الغياب، أحد أعمدة الفن التونسي الذين لا يمكن تجاوزهم.
هو الغائب الحاضر في ذاكرة المسرح والدراما، الذي ترك أثرًا لا يُمحى، ورسالة لا تزال تنتظر من يحملها من بعده. وإن كان قد اختار الصمت، فإن فنه لا يزال يتكلم عنه بصوت عالٍ، ويذكرنا بأن الفنان الحقيقي لا يُقاس بعدد ظهوره، بل بصدق عطائه وأثره العميق.