الراحلة صليحة : أيقونة الفن التي خلدت اسمها بصوتها الأصيل


في تاريخ الأغنية التونسية، تتوهج أسماء خالدة، لكن قلة منها استطاعت أن تتحوّل إلى رمز وطني، يُنطق باسمه بنفس الحنين الذي يُنطق به اسم الوطن.
صليحة، تلك الفنانة التي خرجت من أعماق الريف الشمالي لتصبح "سيدة الطرب التونسي"، لم تكن مجرّد مغنية، بل كانت ظاهرة، وصوتًا اختزل ذاكرة أمة كاملة في جملة لحنية واحدة.
رغم مضي أكثر من ستة عقود على رحيلها، لا تزال الفنانة صليحة حاضرة في ذاكرة التونسيين كرمز من رموز الفن الأصيل، واسمٍ لا يبهت في قائمة العظماء الذين شكّلوا الملامح الأولى للأغنية التونسية الحديثة.
صوتها الآسر، القادم من عمق الريف التونسي، ما زال يلامس القلوب ويشعل الحنين، كأنها لم ترحل أبدًا.
صليحة لم تُغنِّ فقط، بل غنّت لتونس، غنّت للمرأة، وغنّت للوجدان الشعبي الذي وجد في صوتها ملاذًا وذاكرة حيّة.

من الكاف إلى قلوب التونسيين

وُلدت صليحة، واسمها الحقيقي بوهلالة بنت العابد، سنة 1914 في منطقة دوار النوايل، من معتمدية ساقية سيدي يوسف بولاية الكاف، شمال غرب تونس، على الحدود الجزائرية. 
وسط بيئة ريفية محافظة، نشأت في كنف الطبيعة والمواويل البدوية التي أثّرت في شخصيتها الفنية لاحقًا.
منذ صغرها، لفتت الأنظار بصوتها القوي والشجي، وكانت تُشارك في المناسبات المحلية، تردّد المواويل والأهازيج، إلى أن بدأ الحلم يتسلل إلى قلبها: أن تتحوّل من صوتٍ في الجبال، إلى صوتٍ يُسمع في كل البلاد.

من الريف إلى العاصمة : بداية المسيرة

في ثلاثينيات القرن العشرين، قررت صليحة مغادرة الكاف نحو العاصمة تونس، بحثًا عن فرصة حقيقية. وهناك، عرفت طريقها إلى الإذاعة التونسية، التي كانت تبحث عن أصوات نسائية ذات طابع أصيل. 
وأمام لجنة استماع ضمّت كبار الملحنين آنذاك، انطلقت صليحة بقوة، لتُصبح أحد أعمدة الأغنية التونسية الحديثة.
التحقت بـالفرقة الرشيدية، وهي المؤسسة الموسيقية الأشهر في البلاد، وهناك تدرّبت على يد كبار الملحنين، منهم: الهادي الجويني، صالح المهدي، وخميس ترنان، الذين رأوا فيها صوتًا لا يتكرر.

صليحة : الصوت الذي حمل الوطن

امتازت صليحة بصوت نسائي قويّ، واضح النبرة، يحمل طاقة عاطفية عالية، قادرة على إيصال المعنى بدقة، والإحساس بعمق. 
صوتها كان يجمع بين الصدق الريفي والاحتراف المديني، لذلك وصلت بسرعة إلى قلوب الناس.
غنّت صليحة للمرأة، وللمحب، وللشوق، وللأمل، وغنّت للوطن بطريقتها الخاصة. لم تكن تحتاج إلى بهرجة أو تقنيات معقّدة، كان صوتها وحده كافيًا لإحداث أثر عميق.

روائع غنائية خالدة :

قدّمت صليحة أكثر من 80 أغنية، كثير منها لا يزال يُبث حتى اليوم. 
ومن أشهر أعمالها:
"فراق غزالي"
"محلاها العيشة"
"بين الوديان"
"الزين الصافي"
"يا زهرة في خيالي"
"يا خليلة"
"يا عاشق ممشاك"
"فلق المحبوب"

وقد تعاونت في هذه الأعمال مع كبار الشعراء والملحنين، أبرزهم صالح المهدي، الذي كان يعتبرها "صوت تونس بامتياز".

صليحة وصالح المهدي : ثنائي خُلد في الذاكرة

يُعتبر صالح المهدي الملحن الأبرز في مسيرة صليحة، وقد شكّلا معًا ثنائيًا فنيًا مميزًا، أنتجا مجموعة من الأغاني التي أصبحت جزءًا من التراث الوطني.
 وقد قال عنها المهدي لاحقًا:
"صليحة لم تكن فقط صوتًا، بل كانت حالة، وطنًا مصغّرًا يغنّي."

الإذاعة التونسية : المنبر الذي صنع نجوميتها

شكلت الإذاعة الوطنية آنذاك المنصة الأساسية التي انطلقت منها صليحة إلى الشهرة. 
كانت تُسجل أغانيها بشكل حي مع الفرقة الموسيقية، وتبثها إلى مختلف مناطق البلاد، لتصبح صوتًا يوميًا مألوفًا لدى التونسيين، خصوصًا في زمن لم تكن فيه وسائل الإعلام منتشرة.

بروز "نجمة الشعب"

كان لظهور صليحة في الإذاعة الوطنية خلال أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين أثر بالغ في شعبيتها. 
ففي وقت لم تكن فيه الساحة الغنائية تتيح حضورًا نسائيًا بارزًا، خطفت صليحة الأضواء بصوتها، وسرعان ما أصبحت تُعرف بلقب "نجمة الشعب"، لأنها عبّرت عن مشاعره، وآلامه، وطموحاته. 
كانت أغانيها تُبث في وقت الذروة، وتُعاد مرارًا بطلب الجمهور، بل إن بعض الأغاني لاقت شهرة إلى حد أن المستمعين كانوا يحفظونها عن ظهر قلب.

صليحة والمقامات الشرقية : صوت تونسي بطابع عربي

رغم تمسّك صليحة بالروح التونسية في أدائها، إلا أنها كانت متمكّنة من المقامات الموسيقية الشرقية، مثل الراست، البياتي، الصبا، الحجاز وغيرها، وهو ما منح صوتها أبعادًا فنية أكبر، وسمح لها بأداء طيف واسع من الألحان. 
ساعدها هذا التنوع في كسب إعجاب الجمهور العربي، كما لاقت إشادة من فنانين وموسيقيين من المشرق العربي.

مشاركاتها في المهرجانات والمسارح الكبرى

خلال مسيرتها، شاركت صليحة في عدة عروض فنية كبرى داخل تونس، أبرزها في مسرح تياترو تونس وقصر البارون ديرلانجي. 
كما دُعيت للغناء أمام شخصيات سياسية وثقافية بارزة، بما في ذلك الزعيم الحبيب بورقيبة، الذي أعرب أكثر من مرة عن إعجابه بها واعتبرها نموذجًا للمرأة التونسية المجتهدة.
وكان لها حضور قوي في الاحتفالات الوطنية والمناسبات الرسمية، حيث أصبحت صوت الدولة الجديدة الباحثة عن هوية ثقافية بعد الاستقلال.

صليحة والمرأة التونسية : نموذج التحدي والتحرّر

تمثّل صليحة علامة فارقة في تاريخ المرأة التونسية، فقد تحدّت النظرة الاجتماعية القاسية آنذاك تجاه المرأة الفنانة، وفتحت الباب أمام أجيال من المغنيات التونسيات مثل نعمة، علية، وشافية رشدي. 
ورغم أنها كانت امرأة بسيطة، إلا أن حضورها القوي على المسرح، وثقتها في موهبتها، جعلا منها رمزًا للتحرر الفني والاجتماعي.

الخصومات الفنية والغيرة النسائية: صليحة في مرمى النقد والغيرة

رغم نجاحها الساحق وشعبيتها الجارفة، لم تكن مسيرة صليحة خالية من الخصومات الفنية أو النقد اللاذع. 
فقد أثار صعودها السريع حفيظة بعض الفنانين والمطربات المعاصرات لها، خصوصًا في ظل مجتمع لم يكن يتقبل بسهولة أن تتصدر امرأة ساحة الغناء بمثل تلك القوة والهيبة.
واجهت صليحة انتقادات من بعض الأوساط المحافظة التي لم تستسغ انخراطها كامرأة في المجال الفني، كما تعرّضت لموجات من الغيرة من قبل مطربات كنّ يحاولن اللحاق بنجاحها، لكن دون أن يستطعن منافستها على المستوى الجماهيري أو الفني.
 فبينما كانت بعض الأصوات تحاول التشكيك في موهبتها أو نسب بعض الأغاني لغيرها، كان الجمهور هو الحكم الحقيقي، إذ ظل وفيًّا لها، يردد أغانيها ويطالب الإذاعة بإعادة بثها.
حتى بعض الصحافيين والنقاد آنذاك حاولوا في مقالات متفرقة التقليل من شأنها، معتبرين أن شهرتها "مبنية على الترويج لا الجودة"، لكن الزمن أثبت العكس تمامًا، حيث بقي صوتها خالدًا، واندثرت أسماء كثيرة كانت تُقدَّم كبدائل لها.
ورغم تلك العداوات والضغوط، لم تدخل صليحة في مهاترات أو تصريحات نارية، بل كانت تردّ دائمًا بصوتها فقط، فكان الفن سلاحها الوحيد، وكانت الشعبية الواسعة درعها الأقوى.

وفاتها : صدمة وطنية

رحلت صليحة عن عالمنا في 26 نوفمبر 1958، إثر أزمة صحية مفاجئة، وهي في قمة عطائها الفني، عن عمر لم يتجاوز 44 عامًا. 
تركت صدمة كبيرة في الساحة الفنية، وشارك عدد كبير من الفنانين والمواطنين في تشييع جنازتها.
وقد نعتها الإذاعة الوطنية كفقدان وطني كبير، واعتبرتها رمزًا للأغنية التونسية الخالصة.

إرث فني خالد

رغم مرور عقود على رحيلها، لا تزال أعمال صليحة تُدرّس في المعاهد الموسيقية، وتُبث في الإذاعات، وتُعاد غناؤها في المسارح. 
وقد اعتبرها كثيرون "أم كلثوم تونس"، و"سيدة الطرب التونسي".
تم إطلاق اسمها على دار الثقافة صليحة في الكاف، كما خُصصت لها برامج إذاعية وتلفزيونية وثائقية تُخلّد سيرتها.

صليحة في ذاكرة الفنانين

لم ينسَ الفنانون التونسيون ما قدّمته صليحة من إرث، إذ كثيرًا ما يتم استحضارها كنموذج.
 قالت عنها الفنانة نعمة:
"لولا صليحة، لما تجرأت على الوقوف أمام الميكروفون. كانت جسرًا مشعًا بيننا وبين الجمهور."
أما صالح المهدي، ملحّن أغلب أعمالها، فقد قال:
"عندما كنت أضع ألحانًا لصليحة، كنت أكتبها كما تُكتب القصائد. كانت صوتًا من ذهب."

إعادة إحياء تراث صليحة

في السنوات الأخيرة، قامت الرشيدية ومؤسسات ثقافية عديدة بإعادة توزيع وغناء أعمال صليحة، تكريمًا لها، ونقلًا لتراثها إلى الأجيال الجديدة. 
كما تم إدراج عدد من أغانيها ضمن المحفوظات الوطنية الصوتية، ووثّقت الإذاعة التونسية تسجيلات نادرة لها، بعضها لا يزال يُبث في المناسبات الخاصة.

 صليحة التي لم ترحل

رحلت صليحة جسدًا، لكنها بقيت في الذاكرة، في الصوت، في الإحساس، وفي التراث.
 غنّت لتونس، وعاشت لها، وماتت قبل أن ترى كيف أصبحت جزءًا من وجدان كل تونسي.
لقد كانت صليحة أكثر من صوت، كانت مرآة لزمن، وحكاية امرأة تحدّت القيود، ورفعت الأغنية التونسية إلى مصافّ الكبار.
تعليقات