مسيرة الفنانة الراحلة "نعمة" : سيدة الأغنية التونسية.. وصوت لا يُنسى





عندما نتحدث عن الأصوات التي تجاوزت حدود الزمن وبقيت محفورة في الذاكرة الجمعية للشعوب، لا يمكن إلا أن نستحضر اسم الفنانة التونسية الراحلة نعمة، التي لم تكن مجرد مطربة تؤدي الأغاني، بل كانت تجسيدًا حيًّا لروح تونس، لحساسيتها، لمزاجها الشعبي، ولفنها الأصيل. كانت نعمة الصوت الذي لا يُخطئه القلب، الذي يلتصق بالذاكرة، والذي يصنع من الكلمات لحناً، ومن اللحن وجداناً، ومن الوجدان وطنًا مصغّرًا يُغنّى ويُحسّ.
ولأن الفن ليس فقط أداءً، بل أيضًا رسالة وهوية، نجحت نعمة على مدى عقود في أن تُعرّف التونسيين بأنفسهم، أن تحتضنهم في أغانيها، وأن تُوصل صوتهم إلى الأفق الأبعد. 
لم تكن تُغني لتُبهر، بل كانت تُغني لأنها تُحب، وتُحب لأنها ابنة الأرض، ابنة الريف، ابنة البحر، وابنة الأغنية التي لا تموت.
لقد كانت نعمة ظاهرة فنية متكاملة: بصوتها، بحضورها، بخياراتها، وحتى باعتزالها الهادئ الذي لم يُطفئ أبدًا وهجها في قلوب محبيها. 
وبين ميلادها في مدينة قليبية سنة 1934، ورحيلها في أكتوبر 2020، سطّرت الفنانة مسيرة ذهبية امتدت لأكثر من نصف قرن، أثبتت فيها أن الفن الأصيل يعيش، والموهبة الحقيقية لا تغيب.

النشأة والبدايات : من قليبية إلى حلم الفن

وُلدت الفنانة نعمة، واسمها الحقيقي حليمة الشيخ، يوم 27 فبراير 1934 في مدينة قليبية التابعة لولاية نابل، وهي مدينة ساحلية تتميز بطبيعتها الخلابة وتاريخها العريق. 
كانت تنتمي إلى عائلة محافظة كبقية العائلات التونسية في تلك الفترة، وبرز حبها للفن والغناء منذ سن مبكرة.
عاشت نعمة طفولة بسيطة في بيئة ريفية، حيث كان الغناء جزءًا من الحياة اليومية : في الحقول، في الأعراس، وفي المناسبات العائلية. هذا الجو الشعبي، الغني بالإيقاعات المحلية والتقاليد الموسيقية، شكّل الأساس النفسي والفني الذي ستحمل نعمة بصماته طوال مسيرتها.
بدأت تغني في سن صغيرة، وأظهرت قدرة فطرية على التحكم في الصوت والإحساس بالنغمة.
 ورغم أن دخول الفتاة إلى مجال الغناء في تلك الفترة لم يكن سهلًا اجتماعيًا، فإن إصرارها، وموهبتها، ودعم بعض الموسيقيين الرواد، مهّد الطريق أمامها لتحقيق حلمها.

التحاقها بالإذاعة : انطلاقة رسمية نحو المجد

التحقت نعمة بالإذاعة التونسية في أواخر الأربعينات، بفضل تشجيع الموسيقار الصادق ثريا، الذي آمن بموهبتها ورأى فيها مشروع صوت نسائي مهم في الساحة الفنية التونسية.
 وهناك تم تغيير اسمها الفني من "حليمة" إلى "نعمة"، وهو اسم اختير بعناية ليعكس رقة شخصيتها وعذوبة صوتها.
بدأت في أداء أعمال غنائية بسيطة، وتدرّجت في التعامل مع كبار الملحنين آنذاك.
وهؤلاء ساعدوها على تطوير أدائها، وتنويع أسلوبها، وصقل إمكاناتها، فكانت تغني المالوف، والأغنية الحديثة، والشعبية، والوطنية، بكل إتقان وشغف.

صعود نجمها: نعمة صوت تونس الأول

في الستينات والسبعينات، كانت نعمة في أوج عطائها، وأصبحت بلا منازع الصوت النسائي الأول في تونس. عُرفت بتقنيتها العالية في الأداء، وإحساسها المرهف، وحضورها على الركح، كما كانت فنانة مثقفة، تختار نصوصها بعناية، وتتفاعل مع الجمهور بطريقة إنسانية صادقة.
كانت تحرص على تقديم الأغنية التونسية في شكلها الأصيل، لكنها لم تمانع في تطويرها بما يتماشى مع متغيرات العصر. 
فجمعت بين الإبداع الموسيقي المحلي والحداثة، ما جعلها تحافظ على هويتها وفي نفس الوقت تنال إعجاب الجيل الجديد.

من أبرز أغانيها :
"شفتك مرة"
"يا ناس ماكسح قلبو"
 "الدنيا هاني"
 "الليلة اه ياليل"
 "محلاها كلمة في فمي"
"شرع الحب"
"غني يا عصفور"
"بيني وبينك سرّ مخبي"

وهذه الأغاني ليست فقط نجاحات فنية، بل تحولت إلى جزء من الذاكرة السمعية الوطنية.

أسلوبها الفني: إحساس فني وذكاء موسيقي

تميز صوت نعمة بنبرة رخيمة، عميقة، دافئة، تحمل في طياتها الحنين، والحب، والفرح، والحزن. 
كانت تجيد التحكم في المقامات، والتلوين في الأداء، وإبراز المعاني الشعرية من خلال الغناء، وهو ما جعل أغانيها تُعاش أكثر مما تُسمع.
اعتمدت على اللهجة التونسية المحلية في أغلب أعمالها، ما ساهم في اقترابها من قلوب الناس.
 وكانت تختار ألحانها بدقة، تفضل البساطة على التعقيد، وتسعى دائمًا لأن تكون الأغنية حاملة لمعنى ورسالة.
كما برعت في أداء الأغنية الوطنية، إذ كانت من أوائل الفنانات اللاتي قدمن أعمالًا تمجد البلاد، وتدعو إلى الانتماء والفخر.
 فصوتها لم يكن فنيًا فقط، بل كان صوتًا للمجتمع، للوطن، للمرأة، وللوجدان الجمعي التونسي.

الحياة الشخصية والجانب الإنساني

رغم شهرتها الواسعة، اختارت نعمة أن تعيش حياتها الشخصية بعيدًا عن الأضواء.
 تزوجت وأنجبت أبناء، لكنها فصلت بين الحياة الفنية والحياة الخاصة، وعُرفت بتواضعها، ودماثة خلقها، ووفائها لأصدقائها وزملائها.
كانت مثالاً للفنانة التي تتغنى دون أن تتعالى، وتبدع دون أن تستعرض. 
وقد أحاطت نفسها بأشخاص موثوقين، كما عُرفت بحرصها على احترام معجبيها وإعطاء كل حفلة من حفلاتها أفضل ما لديها.

المرض والاعتزال : الخروج بهدوء من المشهد

في السنوات الأخيرة من حياتها، بدأت صحتها تتدهور بسبب مشاكل في القلب وأمراض مزمنة أخرى. 
ورغم محاولات العلاج، اختارت نعمة أن تعتزل الساحة الفنية سنة 2008، بعد رحلة دامت أكثر من خمسين عامًا.
كان اعتزالها هادئًا، بلا ضجة إعلامية، لكنها بقيت حاضرة في وجدان الناس، وكانت تظهر في بعض المناسبات أو يتم تكريمها من طرف المؤسسات الثقافية، اعترافًا بما قدمته من خدمات جليلة للفن الوطني.

الرحيل : فقدان صوت من ذهب

رحلت الفنانة نعمة يوم الأحد 18 أكتوبر 2020 عن عمر ناهز 86 عامًا، تاركة خلفها موجة من الحزن والأسى في قلوب التونسيين. 
وشيعت إلى مثواها الأخير في جنازة مهيبة، شارك فيها فنانون، مثقفون، سياسيون، وجمهور واسع من محبيها.
شكل رحيلها نهاية مرحلة ذهبية من تاريخ الأغنية التونسية، لكن إرثها الفني لا يزال يعبق في الأرجاء، يُدرّس ويُسمع ويُعاد إنتاجه في حفلات ومهرجانات، كأنها لم ترحل أبدًا.

إرثها الفني والثقافي : مدرسة قائمة بذاتها

تركت نعمة خلفها أكثر من 400 أغنية، تتنوع بين الطرب الأصيل، الأغنية الوطنية، الأغنية العاطفية، والأغاني الفولكلورية. 
وهي اليوم تُعد من ركائز المدرسة التونسية في الغناء، وتُستشهد بها في المعاهد الموسيقية والبحوث الأكاديمية.
ألهمت أجيالًا من الفنانين والفنانات، وكانت نموذجًا يُحتذى في احترام الذات، والجمهور، والفن.
 وهي تُعتبر، بحق، من أبرز الرموز النسائية في تاريخ الفن العربي المعاصر.

صوت لا يُنسى، واسم لا يُمحى

في حياة الشعوب، تبقى بعض الأصوات خالدة لأنها لم تكن فقط أداءً موسيقيًا، بل كانت شهادة على الزمن، ومرآة للمجتمع، وتجسيدًا للوجدان الجماعي.
 نعمة، بصوتها، واختيارها، وحياتها، ورحيلها، كانت واحدة من تلك الأصوات.
لم تكن فقط مطربة تونس، بل كانت صوتها، وذاكرتها، وعطرها الفني الباقي.
تعليقات