يُعدّ الفنان الكوميدي التونسي نصر الدين بن مختار من أبرز رموز الساحة الفنية في تونس خلال العقود الأخيرة.
تميّز بأسلوبه الفريد في تقديم الكوميديا، حيث جمع بين التلقائية والعمق الاجتماعي، مما جعله يحظى بمكانة خاصة في قلوب الجمهور التونسي.
النشأة والبدايات :
وُلد نصر الدين بن مختار في 13 مارس 1959 في تونس العاصمة، وتربى في حي "الربط" المعروف بتربة الباي.
منذ صغره، أبدى شغفًا كبيرًا بالمسرح والفنون، مما دفعه إلى الانخراط في المجال الفني مبكرًا.
كانت بداياته في المسرح، حيث شارك في عدة أعمال مسرحية، أبرزها مسرحية "يا سلام سلم" التي كتب نصها بنفسه، والتي عُرضت لأول مرة في عام 1993.
مسيرة فنية حافلة :
تميّز نصر الدين بن مختار بقدرته على تجسيد الشخصيات الكوميدية بطريقة فريدة، حيث كان يمزج بين الفكاهة والنقد الاجتماعي.
من أبرز أعماله التلفزيونية مسلسل "نادي النبارة" الذي عُرض في عام 2006، والذي شارك فيه كممثل وكاتب للسيناريو والحوار.
كما شارك في مسرحية "ضحكولوجيا" عام 2002، ومسلسل "عشقة وحكايات" عام 1998.
بالإضافة إلى ظهوره في برنامج "نورمال" حيث كان يُلقي النكت، وظهوره كضيف في برنامج "كلام الناس" عام 2012.
أسلوبه الفني وتأثيره :
كان نصر الدين بن مختار يتمتع بأسلوب فني فريد، حيث كان يعتمد على التلقائية والعفوية في تقديم الكوميديا.
كان يرفض الابتذال في الفن، ويحرص على تقديم محتوى هادف يمسّ الواقع الاجتماعي التونسي.
قال في إحدى تصريحاته : "لن يبعدني عن المسرح سوى الموت... أنا ضد الاعتداء على المبدع وضدّ تجاوز الخطوط الحمراء والمساس بالمقدسات... لا يوجد منافس لي على خشبة المسرح باستثناء الأمين النهدي... الحمد لله جمهوري يحبني والشعب التونسي كذلك".
المرض والوفاة :
في أول يوم من شهر رمضان عام 2012، تعرض نصر الدين بن مختار لجلطة دماغية مفاجئة، نجا منها بأعجوبة، لكنه عانى من مضاعفاتها.
تدهورت حالته الصحية في الأشهر التالية، مما أثر على حالته النفسية، خاصة بعد وفاة والدته التي تأثرت بأزمته الصحية. توفي نصر الدين بن مختار في 18 فبراير 2013 عن عمر يناهز 53 عامًا، بعد أن نُقل إلى مستشفى أريانة ووُضع في العناية المركزة.
شُيّع جثمانه إلى مثواه الأخير بمقبرة بن يدر في ولاية بن عروس.
نصر الدين بن مختار : روح الدعابة الراقية وصوت الشعب
تميّز نصر الدين بن مختار بأسلوبه الفريد في تقديم الكوميديا، حيث جمع بين التلقائية والعمق الاجتماعي، مما جعله يحظى بمكانة خاصة في قلوب الجمهور التونسي.
كان يُجسّد الشخصيات الشعبية بواقعية، وينقل هموم المواطن البسيط بأسلوب ساخر وذكي، مما جعله يُلقّب بـ"صوت الشعب" على خشبة المسرح.
أعماله لم تكن مجرد ترفيه، بل كانت مرآة تعكس الواقع الاجتماعي والسياسي، وتُحفّز الجمهور على التفكير والنقد البناء.
من أبرز أعماله المسرحية "بطيخ الثورة" التي عُرضت عام 2011، حيث تناول فيها التغيرات الاجتماعية والسياسية في تونس بعد الثورة بأسلوب ساخر وناقد. كما شارك في سلسلة "واضح" التي عُرضت على قناة حنبعل، والتي كانت تُسلّط الضوء على قضايا اجتماعية مختلفة بطريقة فكاهية.
كان نصر الدين بن مختار يؤمن بأن الكوميديا وسيلة للتغيير والإصلاح، وليس مجرد وسيلة للضحك.
لذلك، كان حريصًا على تقديم محتوى هادف يُلامس الواقع ويُثير التساؤلات، مما جعله يحظى باحترام وتقدير الجمهور والنقاد على حد سواء.
الوجه الإنساني للفنان : نصر الدين خارج الأضواء
بعيدًا عن الأضواء والكاميرات، كان نصر الدين بن مختار إنسانًا بسيطًا ومتواضعًا، قريبًا من الناس، يعيش همومهم ويشاركهم تفاصيل حياتهم اليومية.
لم يكن يضع حاجزًا بينه وبين جمهوره، بل كان يلتقي بهم في الشارع أو المقاهي الشعبية، يُمازحهم ويتحدث إليهم بمحبة صادقة.
كان يؤمن أن الفنان الحقيقي يجب أن يظل ابن بيئته، لا يتعالى على الناس ولا يعيش في برج عاجي.
كثيرون يروون مواقف إنسانية له، منها مساعدته لفنانين شبّان في بداية مشوارهم، أو تقديم عروض مجانية في بعض المناطق الداخلية دعمًا للثقافة هناك.
في أصعب ظروفه الصحية، لم يتاجر نصر الدين بمعاناته، بل ظل محافظًا على ابتسامته، ورفض الظهور الإعلامي إلا نادرًا، مؤمنًا أن احترام الجمهور يقتضي عدم استغلال المرض لكسب التعاطف.
لقد جسّد بن مختار مثالًا للفنان الحقيقي الذي يعيش من أجل الفن، ويغادر في صمت نبيل، تاركًا أثرًا عميقًا لا يُمحى.
إرثه الفني :
ترك نصر الدين بن مختار إرثًا فنيًا غنيًا، حيث يُعتبر من أبرز الفنانين الذين ساهموا في تطوير الكوميديا التونسية.
تميّز بأعماله التي جمعت بين الفكاهة والنقد الاجتماعي، مما جعله يحظى بتقدير واحترام الجمهور والنقاد على حد سواء. رغم رحيله المبكر، لا تزال أعماله تُعرض وتُذكر، مما يدل على تأثيره العميق في الساحة الفنية التونسية.
يُعتبر نصر الدين بن مختار رمزًا من رموز الكوميديا التونسية، حيث قدّم أعمالًا خالدة تُجسّد الواقع الاجتماعي بروح فكاهية راقية.
رحيله ترك فراغًا في الساحة الفنية، لكن إرثه الفني سيظل حيًا في ذاكرة الجمهور التونسي.