في خضمّ التحولات السريعة التي عرفتها الساحة الفنية التونسية والعربية، ظهرت أصوات كثيرة، بعضها لمع ثم خبا، وبعضها ظلّ صامدًا لأنه آمن برسالته الفنية واختار درب الأصالة على حساب الشهرة المؤقتة.
من بين هذه الأصوات القليلة والمميزة، يبرز اسم نبيهة كراولي، فنانة حملت على عاتقها همّ الأغنية التونسية، وجعلت من صوتها جسرًا بين التراث والتجديد، فحافظت على الهوية الثقافية من جهة، ومن جهة أخرى طوّعت الألحان والكلمات لتواكب تطلعات الجمهور الحديث.
بدايات متجذّرة في حبّ الفن :
وُلدت نبيهة كراولي في مدينة قفصة الواقعة في الجنوب الغربي من تونس، وهي منطقة مشهورة بتراثها الموسيقي العريق.
منذ سنوات طفولتها، ظهرت موهبتها الغنائية، فكانت تؤدي الأغاني التراثية بإحساس عالٍ وصوت دافئ، ما جعلها محط أنظار كل من استمع إليها.
شغفها بالموسيقى دفعها إلى دراسة أصول الغناء، مما مكنها من صقل موهبتها بأسس علمية وموسيقية راسخة.
مسيرة فنية متنوعة :
دخلت نبيهة كراولي الساحة الفنية التونسية في فترة كانت تحتاج إلى صوت نسائي مختلف يعبّر عن الروح التونسية، فبرزت بأسلوبها الخاص وأدائها المميز.
اختارت أن تكون وفية للهوية الموسيقية التونسية، فغنّت القصائد باللهجة المحلية، وأعادت توزيع الأغاني التراثية بروح جديدة، كما تعاونت مع عدد من كبار الشعراء والملحنين التونسيين الذين ساعدوها على بناء تجربة موسيقية متينة.
من أشهر أغانيها : "هز عيونك"
أغنية شهيرة تتميز بإيقاعها الحيوي وكلماتها المعبرة، وقد لاقت رواجًا واسعًا بين جمهورها.
"شفتك مرة"
من أوائل أغانيها التي حققت نجاحًا كبيرًا، وتُعد من الكلاسيكيات في مسيرتها الفنية.
"يا سعد"
أغنية تحمل طابعًا تراثيًا، تُبرز فيها نبيهة كراولي جمال الصوت التونسي الأصيل.
" ما تجيب أمارة"
أغنية تعكس الأسلوب الغنائي المميز للفنانة، وتمزج بين الكلمات العاطفية والألحان الهادئة.
" في البرمة"
أغنية ذات طابع شعبي، تُظهر فيها نبيهة كراولي قدرتها على أداء مختلف الألوان الموسيقية.
" يا لالالي"
أغنية تراثية تُبرز فيها الفنانة ارتباطها العميق بالموروث الثقافي التونسي.
التزام بالتراث وتطوير للهوية :
ما يميز نبيهة كراولي هو احترامها العميق للتراث التونسي، ليس فقط كمادة فنية، بل كهوية ثقافية يجب الحفاظ عليها.
إلا أنها لم تقع في فخ التكرار أو الجمود، بل سعت دائمًا إلى تقديم أعمال تواكب العصر دون أن تفقد نكهتها التونسية الخاصة.
ويشهد على ذلك حضورها المتجدد في المهرجانات الوطنية والدولية، حيث تحرص دائمًا على أن تحمل معها روح تونس في صوتها وأناقتها وأسلوبها الفني.
امرأة تثبت ذاتها في الساحة الثقافية :
إلى جانب موهبتها الفنية، عُرفت نبيهة كراولي بشخصيتها القوية والتزامها بقضايا المرأة والفنان.
لم تتردد في التعبير عن آرائها، وحرصت على أن يكون لها دور فعّال في الحياة الثقافية التونسية، سواء عبر إبداعاتها أو مشاركاتها في الندوات والمهرجانات.
تجربة موسيقية خارج حدود تونس :
لم تقتصر شهرة نبيهة كراولي على الساحة التونسية فقط، بل امتدّ إشعاعها إلى المهرجانات العربية والعالمية. فقد مثلت تونس في عدة محافل دولية، كـمهرجان قرطاج الدولي، ومهرجان الموسيقى العربية في القاهرة، ومهرجانات المغرب والجزائر، حيث لقيت ترحيبًا كبيرًا من الجماهير العربية التي وجدت في صوتها لمسة من الأصالة والتجديد.
التنوّع في المواضيع والمضامين :
تميزت أغاني نبيهة كراولي بتنوعها من حيث المواضيع. فهي لم تكتفِ بالغناء للحب فقط، بل تناولت في أعمالها قضايا اجتماعية وإنسانية تمسّ الواقع التونسي والعربي. بعض أغانيها تناولت الحنين إلى الوطن، مكانة المرأة في المجتمع، وحتى هموم الإنسان البسيط، ما جعلها قريبة من قلوب مختلف فئات الجمهور.
موقفها من الواقع الفني المعاصر :
في عدة حوارات إعلامية، عبّرت نبيهة كراولي عن قلقها من تراجع الذوق الفني في بعض الأعمال المعاصرة، مؤكدةً أهمية الحفاظ على هوية الأغنية التونسية.
وقد دعت إلى دعم الفن الجاد وتشجيع الفنانين الشباب الذين يحترمون التراث ويضيفون إليه من دون أن يفرّطوا فيه.
حضورها الإعلامي وأسلوبها في التعامل مع الجمهور :
تُعرف نبيهة كراولي بكونها فنانة مثقفة وواعية، تظهر في الإعلام بأسلوب هادئ ومحترم، وتتحدث بثقة ودراية. كما أنها دائمًا تُقدّم نفسها بتواضع، وتُشيد بجمهورها الذي ساندها منذ البدايات.
لا تبحث عن الإثارة الإعلامية، بل تترك لفنّها أن يتحدث عنها.
دورها في دعم المواهب الشابة :
حرصت نبيهة كراولي على تشجيع الأصوات الجديدة، وشاركت في لجان تحكيم بعض المسابقات الفنية، وقدّمت نصائح للفنانين الجدد مبنية على تجربتها الطويلة.
تؤمن بأن الفن رسالة، ويجب أن يُبنى على الموهبة والعمل والاجتهاد.
صوت يبقى رغم تغيّر الأزمنة :
نبيهة كراولي ليست مجرد فنانة غنّت لحبّ أو وطن، بل هي رمز لتونس التي تفتخر بتراثها وتنفتح على المستقبل. استطاعت أن تثبت أن الفن يمكن أن يكون جسرًا بين الماضي والحاضر، وأن الصوت الصادق يظل خالدًا في ذاكرة الشعوب.
إن الحديث عن نبيهة كراولي لا يقتصر على كونها فنانة ذات صوت جميل أو صاحبة رصيد فني مهم، بل يتعداه إلى كونها نموذجًا للمرأة التونسية المثقفة، الصامدة، والملتزمة بقضايا الفن والثقافة والمجتمع.
هي ليست فقط صوتًا يُطرب، بل عقلًا يُفكّر وقلبًا يُعبّر، وهي في كل ظهور إعلامي أو فني، تترك بصمتها الخاصة، بلا ضجيج أو استعراض.
لقد أثبتت نبيهة كراولي أن الفنان الحقيقي لا يحتاج إلى ضوء زائف ليُرى، بل يكفيه أن يصدق مع نفسه وجمهوره، وأن يُقدّم فنًا نقيًا نابضًا بالهوية والروح.
فكانت ولا تزال رمزًا لفنّ راقٍ يحترم الذوق العام، ويمثل تونس بأجمل صورها، صورة تُشبهها: أنيقة، أصيلة، قوية وملهمة.
وفي زمن كثرت فيه الأصوات وقلّت القيمة، تبقى نبيهة كراولي واحة من الصفاء الفني، تستحق أن يُكتب عنها، ويُحتفى بها، وتُحفظ أعمالها كجزء من الذاكرة الثقافية التونسية والعربية.