الراحلة منيرة حمدي : صوت أصيل سكن القلوب رغم الغياب


في تاريخ الأغنية التونسية، لا يمكن المرور دون التوقف عند اسم الفنانة الراحلة منيرة حمدي، تلك الصوت الأنثوي الذي جمع بين الأصالة والحداثة، ونجح في اختراق القلوب بإحساسه العميق وتفرده الفني. 
لم تكن منيرة مجرد مطربة تؤدي الأغاني، بل كانت فنانة شاملة حملت رسالة فنية ذات مضمون، وسعت طيلة مسيرتها إلى الدفاع عن الفن الراقي، واحترام الذوق العام، وتمثيل الثقافة التونسية في المحافل المحلية والعربية.

النشأة والبدايات :

وُلدت منيرة حمدي سنة 1965 في ولاية باجة شمال غرب تونس، وسط بيئة محافظة تهتم بالموسيقى الشعبية والتراث.
 منذ طفولتها، أظهرت ميولًا فنيا واضحا، وكانت تحرص على تقليد الأصوات الغنائية الكبرى في تونس والعالم العربي.
 انطلقت مسيرتها الفعلية من خلال مشاركتها في برنامج المواهب التلفزيوني "نادي المواهب"، والذي فتح أمامها أبواب الشهرة والاحتراف، بعد أن بهر صوتها لجنة التحكيم والجمهور على حد سواء.
بعد البرنامج، بدأت تتلقى عروضًا فنية، وسرعان ما أثبتت مكانتها بصوتها القوي وإحساسها المرهف، وتمكنت من اختراق الساحة الفنية التونسية التي كانت تعج آنذاك بأسماء قوية، مثل نعمة وصليحة وعليّة.

المسيرة الفنية :

امتدت مسيرة منيرة حمدي على مدار أكثر من 25 عامًا، وقدمت خلالها أكثر من 50 أغنية، إلى جانب مشاركتها في المسرحيات الغنائية، والحفلات الكبرى.
 تميزت أعمالها بالتنوع، ما بين الطرب الأصيل، والأغنية العاطفية، والموروث الشعبي، وهو ما منحها جماهيرية واسعة داخل تونس وخارجها.

من أبرز أغانيها :

"سلام يا حمامي": وهي أغنية تراثية أعادت غناءها بأسلوبها الخاص.
"يما برأسك بري": أغنية عاطفية ذات طابع شعبي لاقت رواجًا كبيرًا.
"تلفنتلك": أغنية شبابية قدمتها بأسلوبها المميز، جمعت فيها بين البساطة والعمق.
"كيفاش نعمل": أغنية طربية حزينة عبّرت من خلالها عن حالة وجدانية عميقة.

كما تعاونت مع مجموعة من كبار الملحنين التونسيين والعرب، مثل عبد الكريم صحابو، وصلاح الدين السلامي، وغيرهم من الأسماء البارزة.

الحضور المسرحي والمهرجانات :

لم تقتصر منيرة حمدي على الغناء فقط، بل شاركت أيضًا في أعمال مسرحية غنائية، منها مسرحية "الحجّامة"، ومسرحية "حورية"، التي أبرزت فيها قدرتها على الأداء الدرامي والصوتي في آن واحد.

شاركت في أهم المهرجانات الوطنية والعربية، مثل:
مهرجان قرطاج الدولي
مهرجان الحمامات الدولي
مهرجان تستور
مهرجان القاهرة للموسيقى العربية
مهرجان الدوحة للأغنية

وكانت دائمًا محط ترحيب من النقاد والجمهور على حد سواء، بفضل التزامها الفني ولباسها المحافظ وصورتها النظيفة.

القيم الفنية والهوية الثقافية :

كانت منيرة من الفنانات اللاتي تمسّكن بهوية الأغنية التونسية، ورفضت الانسياق وراء موجة الأغاني التجارية السريعة. 
وكانت ترى أن الفن رسالة وليس مجرد وسيلة للشهرة، وقد دافعت مرارًا عن أهمية المحافظة على التراث الموسيقي التونسي، وتقديمه بطريقة عصرية دون تشويهه.
كما كانت حريصة على تقديم الأغنية الهادفة، ورفضت عددًا من العروض الفنية التي لم تقتنع بجودتها الفنية أو مضمونها. 
وقد صرحت في أكثر من مناسبة أنها تفضل البقاء في الظل على أن تقدم شيئًا يُسيء لصورتها أو للفن التونسي.

الجانب الإنساني والشخصي :

كانت منيرة حمدي شخصية متواضعة، قريبة من الناس، وشاركت في العديد من المبادرات الخيرية والاجتماعية، خاصة في المناطق الداخلية المهمشة.
 كما كانت تشجع الشباب وتساند الأصوات الصاعدة، وتؤمن بأن لكل فنان فرصة إذا ما اجتهد وصدق في فنه.
ورغم شهرتها، عُرفت منيرة بابتعادها عن الإعلام والظهور المبالغ فيه، وكانت تركز على أعمالها الفنية فقط، مما جعل حضورها أكثر تأثيرًا ومصداقية.

الرحيل المفاجئ :

في 15 سبتمبر 2019، غادرت منيرة حمدي الحياة فجأة عن عمر ناهز 54 سنة، بعد صراع مع المرض.
 وقد شكّل خبر وفاتها صدمة كبيرة في الأوساط الفنية والإعلامية والشعبية، إذ فقدت الساحة الفنية التونسية صوتًا أصيلًا وفنانةً ملتزمة.
وقد شارك في تشييع جنازتها عدد كبير من الفنانين والمواطنين، وتم تداول مقاطع من أغانيها وصورها على نطاق واسع، تكريمًا لمسيرتها واحترامًا لمكانتها.

علاقتها بالإعلام والصحافة :

كانت منيرة حمدي من الفنانات اللاتي يتعاملن بحذر مع الإعلام. 
لم تكن تسعى إلى الأضواء بقدر ما كانت تسعى إلى احترام فنها وجمهورها. 
رفضت مرارًا الخوض في الصراعات أو "البوز"، وكانت تختار بعناية منابرها الإعلامية.
 في كل ظهور، كانت تركز على الفن، وتحترم لغة الحوار، ما جعلها محبوبة من الصحفيين رغم قلة تصريحاتها.

موقفها من الأغنية التجارية :

لم تخفِ منيرة حمدي امتعاضها من "الرداءة" التي بدأت تجتاح الساحة الموسيقية في السنوات الأخيرة من حياتها.
 وصرّحت في أكثر من مناسبة بأن "النجاح السريع" لا يعني الجودة، وأن الفنان الحقيقي هو من يبقى صوته بعد رحيله، لا من يحقق ملايين المشاهدات في وقت وجيز ثم يختفي.

تكريمات وجوائز :
 
رغم ابتعادها عن الأضواء، حظيت منيرة حمدي بتكريمات عديدة داخل تونس وخارجها.
 من أبرز الجوائز التي نالتها:
جائزة أفضل صوت نسائي في تونس عام 2000.
درع مهرجان القاهرة للموسيقى العربية عن مجمل مشاركاتها.
تكريم من وزارة الثقافة التونسية في يوم المرأة التونسية سنة 2010. 
كما تم تكريمها بعد وفاتها في عدد من الفعاليات الثقافية التي أُقيمت لتخليد ذكراها.

مكانتها بين فنانات جيلها :

منيرة كانت تُعدّ من أبرز نجمات جيلها، إلى جانب أسماء مثل أمينة فاخت وزهيرة سالم.
 لكنها تميزت بخطها الفني المحافظ، الذي جمع بين الطرب والاحترام.
 لم تدخل في منافسات فارغة، وكانت علاقتها بزميلاتها يسودها الاحترام والمهنية.

أثرها على الجيل الجديد :

تركت منيرة أثرًا واضحًا على الجيل الجديد من الفنانات. كثير من الشابات اليوم يعتبرنها نموذجًا يُحتذى به، ليس فقط صوتيًا بل أيضًا سلوكيًا وفنيًا. 
وتُعد أغانيها مرجعًا لكل من يريد أن يتعلم الغناء التونسي الأصيل.

منيرة حمدي والهوية التونسية :

كان لفن منيرة دور بارز في تعزيز الهوية التونسية، حيث حرصت على أداء أغانٍ باللهجة المحلية، بل وشاركت في إعادة إحياء بعض الأغاني التقليدية التي كادت تُنسى. فبصوتها، وصل التراث التونسي إلى المحافل العربية، وأصبح جمهور غير تونسي يردد أغانيها دون أن يشعر بالغربة.

إرث فني لا يُنسى :

رحلت منيرة حمدي، لكن صوتها لا يزال حاضرًا في الإذاعات، وعلى المسارح، وفي ذاكرة من عايشوا فنها. وقد دعت أصوات عديدة إلى إعادة إحياء أعمالها، وتنظيم تظاهرات لتخليد اسمها، وإنشاء أرشيف رسمي لأغانيها ومساهماتها.
كما يرى بعض النقاد أن تجربة منيرة حمدي تصلح نموذجًا يُدرَّس، لكونها جمعت بين الموهبة والأخلاق، وبين التمسك بالهوية والانفتاح على التجديد.
منيرة حمدي لم تكن مجرد صوت، بل كانت مشروعًا فنيًا متكاملًا، حمل هموم الأغنية التونسية، ودافع عن أصالتها في زمن طغت فيه الموجة التجارية. 
كانت صوت المرأة التونسية القوية، ووجهًا مشرقًا للفن النظيف.

رحيلها :

رحيل منيرة حمدي لم يكن مجرد خسارة فنية، بل خسارة إنسانية لامرأة اختارت أن تكون صوتًا نظيفًا في زمن الضوضاء. 
فنها لم يكن ترفًا، بل التزامًا. مسيرتها كانت ملهمة لكل من آمن بأن الفن ليس فقط موهبة، بل أيضًا موقف ومبادئ.
وإذا كان الموت قد غيّب جسدها، فإن روحها تظل حاضرة في كل نغمة، وكل كلمة غنتها بصدق.
 ستبقى منيرة حمدي حاضرة في القلوب، وفي ذاكرة الأغنية التونسية، كرمز للأنوثة الأنيقة، والطرب الأصيل، والوفاء للفن وللناس.

من أقوالها :

"الفن مش مجرد شهرة، هو مسؤولية قبل كل شيء."
"أنا نغني باش نخلّي بصمة، مش باش نعمل ضجة وتعدّي."
"اللّي يحب يعيش بالفن لازم يكون صادق، وما يتنازلش على روحو."
كانت كلماتها تعكس قناعتها، وتُبرز مدى احترامها لفنها وجمهورها.

شهادات فنانين عنها :

قال عنها الفنان صابر الرباعي:
"منيرة كانت صوتًا كبيرًا، وإنسانة طيبة جدًا. خسارتها كبيرة للساحة الفنية."
وقالت الفنانة لطيفة العرفاوي في نعيها لها:
"منيرة كانت صوت تونس الأصيل، وأخت وفنانة من طينة نادرة."
أما الموسيقار عبد الكريم صحابو، فقال عنها:
 "منيرة من الأصوات اللي تتعب معاك في البروفة، لأنها تحب كل حاجة تكون متقنة. كانت مثال للفنان المحترم."
تعليقات