في عالم الفن، هناك أسماء لا يبهت حضورها بمرور الزمن، تظل خالدة في الذاكرة الجماعية لأنها شكّلت وجدان الشعوب وأسهمت في بناء الثقافة الوطنية.
منى نور الدين، أو كما يحب أن يلقبها التونسيون بـ"سيدة المسرح"، واحدة من هذه القامات الفنية التي تجاوز تأثيرها حدود الخشبة لتصل إلى كل بيت تونسي وعربي.
هي فنانة امتلكت موهبة فطرية، عقلًا نيرًا، وحسًا إنسانيًا عميقًا، جعل منها إحدى أبرز الممثلات في تاريخ تونس الحديث.
النشأة والبدايات الفنية :
وُلدت منى نور الدين، واسمها الحقيقي سعدية الوسلاتي، يوم 23 يناير 1937 في العاصمة تونس.
نشأت في بيئة محافظة بمنطقة حمام الأنف، حيث تلقت تعليمها الابتدائي في مدرسة البنات المسلمات.
منذ صغرها، أظهرت شغفًا بالفن المسرحي، فانضمت إلى فرقة "النهضة التمثيلية"، التي كانت من أبرز الفرق الهاوية آنذاك، وهناك بدأت خطواتها الأولى على الركح.
رغم التحاقها في البداية بمدرسة ترشيح المعلمين، قررت أن تتبع شغفها بالتمثيل، فالتحقت بمدرسة المسرح العربي التي أسسها زكي الطرابلسي.
لم تكن الطريق سهلة، خاصة في مجتمع كان يضع قيودًا على المرأة، إلا أن طموحها وثقتها في موهبتها جعلاها تتجاوز كل الصعاب.
الانطلاقة الحقيقية مع فرقة مدينة تونس :
كانت نقطة التحول الكبرى في مسيرتها عند انضمامها إلى فرقة بلدية تونس للمسرح عام 1954، بقيادة المخرج الكبير علي بن عياد.
هناك صقلت منى نور الدين موهبتها، وتدرّبت على يد نخبة من أبرز الأسماء المسرحية.
شاركت في أعمال مسرحية ضخمة مثل: هاملت لشكسبير، كاليغولا لألبير كامو، وصقر قريش، وغيرها من المسرحيات التي كانت تعرض داخل تونس وخارجها.
أثبتت منى نور الدين قدرتها على التلوّن في الأدوار، فقدّمت التراجيديا والكوميديا، وأتقنت الشخصيات المعقدة والبسيطة على حد سواء.
كانت، ولا تزال، رمزًا للانضباط المهني والجدية في العمل المسرحي.
التألق في السينما والتلفزيون :
لم يقتصر نشاط منى نور الدين على المسرح، بل شاركت في العديد من الأفلام التونسية التي تُعد من روائع السينما الوطنية.
من أبرز أفلامها : فاطمة 75 (1975) الذي اعتُبر خطوة ثورية في السينما النسوية، ورجل الرماد (1986) للمخرج نوري بوزيد، وموسم الرجال (2000) للمخرجة مفيدة التلاتلي.
أما في التلفزيون، فقد صنعت لنفسها مكانة خاصة في قلوب التونسيين من خلال أدوارها في المسلسلات الشهيرة مثل الخطاب على الباب، منامة عروسية، شوفلي حل، ونسيبتي العزيزة.
لعبت غالبًا دور الأم أو الجدة بحضور قوي، يجمع بين الحنان والحكمة.
الجوائز والتكريمات :
نالت منى نور الدين العديد من الجوائز والأوسمة على امتداد مسيرتها الفنية، تقديرًا لعطائها المتميز.
من أهم هذه التكريمات :
وسام الجمهورية من رتبة قائد عام 2006.
وسام الاستحقاق الثقافي من رتبة ضابط كبير عام 2001.
جائزة الشرف من وزارة الثقافة التونسية.
كما تم تكريمها في عدة مهرجانات داخل تونس وخارجها، منها أيام قرطاج المسرحية، ومهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي.
الحياة الشخصية وأثرها الفني :
تزوجت منى نور الدين من الممثل والمخرج نور الدين القصباوي، الذي كان سندًا قويًا لها في مشوارها الفني، وقد أنجبا ستة أبناء.
شكلت مع زوجها ثنائيًا فنيًا فريدًا، حيث قدما معًا أعمالًا بقيت راسخة في ذاكرة المسرح التونسي.
منى نور الدين والتعليم المسرحي :
إلى جانب عملها كممثلة، لعبت منى نور الدين دورًا مهمًا في نشر الثقافة المسرحية وتعليمها للأجيال الجديدة.
فقد شاركت في العديد من الورش التكوينية والندوات، وكانت دائمًا حريصة على دعم المواهب الشابة.
كما ساهمت بتجربتها في تطوير مناهج التدريس المسرحي في تونس، خاصة في المعهد العالي للفن المسرحي، حيث ألهمت المئات من الطلبة.
التزامها بالقضايا الاجتماعية من خلال الفن :
تميّزت منى نور الدين باختيارها أدوارًا لا تخلو من البعد الاجتماعي.
فقد جسّدت شخصيات تعبّر عن معاناة المرأة، والفقر، والهوية الثقافية، والنضال من أجل الكرامة.
هذا البعد جعل منها أكثر من مجرد فنانة، بل صوتًا لقضايا الناس وهمومهم، وخاصة المرأة التونسية التي وجدت في شخصياتها نموذجًا من القوة والاحترام.
مكانتها في قلوب التونسيين :
أصبحت منى نور الدين جزءًا من الذاكرة الجماعية التونسية.
شخصيتها الهادئة، وكلماتها المتزنة، وحضورها القوي على الشاشة، جعلت منها شخصية محبوبة لدى كل الأجيال. حتى الأطفال تعلّقوا بها من خلال أدوارها العائلية، التي كانت تمثل فيها دور الأم أو الجدة بكل صدق ودفء.
المرأة التي تجاوزت التقاليد :
في وقت كانت فيه مهنة التمثيل مرفوضة اجتماعيًا، تحدّت منى نور الدين الأعراف وتمسّكت بشغفها، ففتحت الطريق أمام نساء كثيرات لدخول عالم الفن.
لم تكن فقط ممثلة ناجحة، بل امرأة شجاعة فتحت الباب للنقاش حول دور المرأة في المجتمع والفن، وأسهمت في تغيير النظرة الدونية التي كانت تُوجَّه للفنانات في تلك الحقبة.
شهادات من كبار الفنانين :
لم يكن تأثير منى نور الدين محصورًا في الجمهور فقط، بل كانت أيضًا محل تقدير زملائها في الوسط الفني.
كثير من الفنانين والمخرجين التونسيين والعرب عبّروا عن إعجابهم بموهبتها وتواضعها، مؤكدين أنها كانت مدرسة فنية قائمة بذاتها.
قال عنها أحد المخرجين: "منى نور الدين لا تحتاج إلى إخراج، حضورها وحده يُخرج العمل إلى النور".
الإرث الثقافي والتأثير :
اليوم، تُعدّ منى نور الدين إحدى الركائز الأساسية للمشهد الثقافي التونسي.
أسهمت في تكوين أجيال جديدة من الفنانين، وظلت نموذجًا يُحتذى به في الالتزام والاحتراف. لا تزال أعمالها تُعرض وتُدرس في المعاهد الفنية، وتُعتبر مصدر إلهام للعديد من الشباب الحالمين بدخول عالم الفن.
منى نور الدين ليست مجرد فنانة، بل هي أيقونة ثقافية ووطنية جسدت روح المرأة التونسية القوية والمبدعة. تركت بصمة لا تُنسى في كل من المسرح، السينما، والتلفزيون، وما زال حضورها حاضرًا في كل بيت وكل مسرح.
إنها قصة نجاح كتبتها امرأة آمنت بموهبتها، وبذلت عمرًا في خدمة الفن والثقافة في تونس والعالم العربي.