المبدع عيسى حراث : قامة فنية ومسيرة إبداعية تتجاوز الستين عامًا


في تاريخ الفن التونسي، تبرز أسماء قليلة استطاعت أن تحفر لنفسها مكانة خالدة في ذاكرة الأجيال، ليس فقط بما قدّموه على الخشبة أو الشاشة، بل بما مثّلوه من قيم فنية وإنسانية. من بين هذه القامات، يلمع نجم الفنان القدير عيسى حراث، الذي امتدت مسيرته لأكثر من ستين عامًا من العطاء الصادق والتمثيل العميق.
هو ابن الجبال التونسية، وصوت الريف البسيط، ووجه المدينة الثقافية، رجل شكّل عبر أدواره صورة متكاملة لفنان مُلتزم بقضايا مجتمعه، عاشق للفن، ومخلص لكل شخصية أداها. في هذا المقال، نغوص في أعماق تجربة هذا الرجل الاستثنائي، لنكتشف ما جعله أسطورة فنية تُحكى للأجيال.

النشأة والبدايات :

وُلد عيسى حراث سنة 1941 في مدينة الجريصة التابعة لولاية الكاف شمال غربي تونس. منذ شبابه، أبدى شغفًا كبيرًا بالفن، مما دفعه للانضمام إلى فرقة الكاف المسرحية في الستينات، والتي كانت آنذاك من أنشط الفرق المسرحية في البلاد.

 مسيرة مسرحية غنية :

بعد انطلاقته مع فرقة الكاف، انتقل حراث للعمل مع أبرز الفرق المسرحية التونسية، مثل المسرح الوطني التونسي وفرقة مدينة تونس للتمثيل.
كما شارك في المسرح القومي العراقي، مما يدل على امتداد تأثيره الفني خارج حدود الوطن.

من بين أبرز أعماله المسرحية :

عطشان يا صبايا
علي بن غذاهم

الحضور التلفزيوني :

تميّز حراث بحضوره القوي على الشاشة الصغيرة، حيث شارك في العديد من المسلسلات التي تركت بصمة في ذاكرة المشاهد التونسي، منها:
ماطوس
حكايات عبد العزيز العروي
وردة
صيد الريم
من أجل عيون كاترين
ظفائر
قمرة سيدي المحروس
قلب الذيب
الفوندو

 الأعمال السينمائية :

شارك حراث في عدة أفلام سينمائية، من أبرزها :

أميرة والوحوش (1986)
طفل اسمه يسوع (1987)
عصفور السطح (1990)
قوايل الرمان (1999)
التلفزة جاية (2006)
بستاردو (2014)

 الحياة الشخصية والتكريم :

عيسى حراث متزوج من الفنانة المسرحية نتيجة عزري، التي شاركته العديد من المحطات الفنية.
رغم مسيرته الحافلة، عانى حراث من تجاهل رسمي، حيث لم يحظَ بالتكريم اللائق من قبل وزارة الثقافة، مما أثار استياء الوسط الفني والجمهور.

 الحالة الصحية الأخيرة :

في يوليو 2024، تعرض حراث لأزمة صحية حرجة، مما دفع زوجته لإطلاق نداء استغاثة للسلطات المعنية.
استجابت رئاسة الجمهورية ووزارتا الصحة والثقافة لهذا النداء، وتم نقل حراث إلى المستشفى العسكري بالعاصمة لتلقي العلاج اللازم.

 إرث فني خالد :

يُعتبر عيسى حراث من أعمدة الفن التونسي، حيث ساهم في إثراء الساحة الفنية بأعماله المتنوعة والمتميزة.
نحت بصمة لا تُمحى في قلوب محبيه، ويُعدّ مثالًا للتفاني والإبداع في خدمة الفن.

عيسى حراث : الإنسان قبل الفنان

ما يميّز عيسى حراث ليس فقط إبداعه الفني وتاريخه الطويل في المسرح والتلفزيون، بل شخصيته الفريدة التي تجمع بين التواضع، حب الحياة، والالتزام العميق بقضايا الإنسان والفن. فهو لم يكن يومًا فنانًا يسعى وراء الشهرة أو الأضواء، بل كان دومًا ذلك الرجل البسيط القادم من الجبال، الحامل في قلبه طموحات شعب بأكمله، والناطق بلغة الناس.
كان يؤمن بأن الفن رسالة لا تكتمل إلا إذا لامست نبض المجتمع، وبهذا المعنى، لم يكن تمثيله أداءً تقنيًا بقدر ما كان تعبيرًا صادقًا عن هموم الناس، آمالهم، وأحلامهم.
لقد لعب أدوارًا مركّبة، بين القوي والضعيف، الضحية والجلاد، الشيخ الحكيم والمتمرد، وكان دائمًا يُدخل إلى كل دور روحًا حية تخرج من أعماقه.
عُرف في كواليس التصوير والمسرح بطيبته وسعة صدره وروحه المرحة، وكان يعامل زملاءه من مختلف الأجيال وكأنهم أبناءه، موجّهًا وداعمًا، لا يبخل بنصيحة ولا يرفع صوته إلا حين يشعر بأن الفن قد فُقدت بوصلته.
عاش بسيطًا، ومات فنانًا كبيرًا في عيون من عرفوه عن قرب. كانت زوجته ورفيقة دربه، الممثلة المسرحية نتيجة عزري، شاهدة على هذا العطاء الإنساني، وهي التي كانت ترافقه في مراحل التعب والمرض، كما كانت تشاركه الخشبة ذاتها في سنوات الوهج.
لقد عانى عيسى حراث في صمت، وأُهمل في وقتٍ كان الأجدر أن يُكرّم فيه وهو على قيد الحياة، لا أن يُذكّر الناس بقيمته فقط حين يمرض أو يغيب.
ومع ذلك، بقي صلبًا، قوي الإرادة، مؤمنًا برسالته، ينهض ليقدّم مشهده رغم أوجاعه، ليقول: "الفن الحقيقي لا يشيخ... بل يخلّد أصحابه".
تعليقات