رحل عن عالمنا الممثل التونسي الكبير هشام رستم، لكنه ترك وراءه إرثًا فنيًا غنيًا يشهد على موهبته الكبيرة وحضوره المميز في السينما والمسرح والتلفزيون. يعتبر هشام رستم واحدًا من أبرز الوجوه الثقافية في تونس والعالم العربي، حيث امتدت مسيرته لأكثر من ثلاثة عقود، شارك خلالها في أعمال محلية ودولية نالت إعجاب الجمهور والنقاد على حد سواء.
النشأة والتعليم :
وُلد هشام رستم في ماي في مدينة تونس.
نشأ في عائلة مثقفة، ما ساهم في صقل اهتمامه بالفن والثقافة منذ الصغر.
بعد دراسته في تونس، شدّ الرحال إلى فرنسا لمواصلة تعليمه العالي، حيث درس في معهد الدراسات المسرحية بباريس وتخرج منه حاملاً خبرة أكاديمية وفنية عالية، مكنته من خوض غمار التمثيل بشكل احترافي.
بداياته الفنية :
بدأ رستم مسيرته الفنية في فرنسا، حيث شارك في عدة عروض مسرحية وأعمال تلفزيونية.
لاحقًا، عاد إلى تونس وبدأ يبرز اسمه في الساحة الفنية، خاصة بعد مشاركته في أفلام تونسية بارزة مثل صفايح ذهب (1994) للمخرج نوري بوزيد، وصمت القصور (1994) لملكة الطايع، وغيرها من الأعمال التي لاقت نجاحًا واسعًا.
التميز في الأداء :
تميّز هشام رستم بقدرته الكبيرة على تقمص الشخصيات، وامتلاكه لصوت رخيم وحضور طاغٍ، مما جعله مطلوبًا في أدوار متنوعة، من الرجل الأرستقراطي إلى الشخصيات المعقدة نفسيًا.
كان يجيد التحدث بعدة لغات، وهو ما سمح له بالمشاركة في أفلام أوروبية وعالمية، من بينها أعمال فرنسية وإيطالية.
مشاركته في الدراما التلفزيونية :
لم يقتصر عطاؤه على السينما فقط، بل كانت له إسهامات بارزة في التلفزيون التونسي، حيث شارك في مسلسلات مثل الخطاب على الباب، الدوّامة، فلاش باك، أولاد مفيدة وغيرها.
وكان حضوره في شهر رمضان، خصوصًا، جزءًا من الذاكرة البصرية للمشاهد التونسي، إذ جسّد شخصيات متنوعة في كل موسم رمضاني تقريبًا.
الجانب الإنساني والثقافي :
بعيدًا عن التمثيل، كان هشام رستم ناشطًا ثقافيًا ومحبًا للحياة.
شارك في مهرجانات محلية ودولية، وكان دائمًا حاضرًا في الندوات واللقاءات الفكرية.
كما كان مديرًا سابقًا لمهرجان قرطاج للسينما الأوروبية. عُرف بتواضعه وحرصه على تشجيع المواهب الشابة، وقدّم الكثير من النصائح والإرشادات لطلبة المعاهد المسرحية.
وفاته وأثره في الساحة الفنية :
في 28 يونيو 2022، ودّعت تونس الفنان الكبير هشام رستم عن عمر يناهز 75 عامًا.
شكّلت وفاته صدمة لمحبيه وزملائه، وترك رحيله فراغًا كبيرًا في الساحة الفنية.
لكن ذكراه ستظل حيّة من خلال أعماله التي ستبقى مرآة لروح فنية فريدة ومتميزة.
هشام رستم لم يكن مجرد ممثل، بل كان سفيرًا للفن التونسي في الداخل والخارج.
تميز بحضوره الراقي وأدائه المبدع وروحه المتجددة. لقد أثبت أن الفن رسالة راقية تتجاوز الحدود، وستظل بصمته محفورة في ذاكرة كل من شاهده ورافقه في مسيرته.
هشام رستم: الفنان، المثقف، الإنسان :
أكثر من مجرد ممثل، كان هشام رستم حالة فنية خاصة، جمعت بين التكوين الأكاديمي الصارم والرؤية الإبداعية الواسعة، بين الانضباط الأوروبي وروح الهوية التونسية. مثّل في أكثر من 70 عملًا فنيًا، ما بين أفلام ومسلسلات ومسرحيات، ترك خلالها أثرًا يصعب محوه.
مسيرته الدولية :
رغم انطلاقته في فرنسا، بقي رستم وفيًّا لجذوره التونسية، وعمل على بناء جسر ثقافي بين ضفتي المتوسط.
شارك في أفلام أوروبية عديدة، منها:
La Barbare (1989)
Un été à la Goulette (1996)
The String (Le Fil) – فيلم مشترك تونسي فرنسي
Whatever Lola Wants (2007) – فيلم أمريكي فرنسي جزائري
تلك المشاركات أكسبته شهرة خارج تونس، وأظهرت قدرته على التكيّف مع أنماط أداء مختلفة، ولغات متعددة، مما جعل منه فنانًا عالميًا بحق.
أعماله المسرحية :
رغم أن السينما والتلفزيون منحاه الشهرة الأكبر، فإن المسرح كان عشقه الأول.
شارك في عشرات العروض المسرحية، منها ما أُنجز في فرنسا، ومنها في تونس.
كان يعتبر الخشبة "الفضاء الحر" الذي يسمح له بالتجريب والتعبير الكامل.
كما عمل كمخرج مسرحي في بعض التجارب، وساهم في تطوير الذائقة المسرحية لدى الجيل الجديد من الفنانين.
لم يكن هشام رستم ممثلًا عاديًا، بل كان قارئًا نهمًا للفلسفة، الأدب، والتاريخ.
كان يُعرف في الوسط الثقافي برصانته الفكرية، وآرائه العميقة في الفن والسياسة والهوية.
كثيرًا ما دُعي للمشاركة في الندوات الفكرية، وكان من المدافعين عن دور الفن في التنوير والتغيير الاجتماعي.
مشاركته في الحياة العامة :
كان ناشطًا ثقافيًا بكل معنى الكلمة.
تولى إدارة بعض التظاهرات والمهرجانات الفنية، وشارك في لجنة تحكيم عدة مهرجانات سينمائية.
كما عُرف بمواقفه المستقلة، فلم ينخرط في السياسة، بل آمن بأن الفنان عليه أن يحافظ على مسافة فكرية تُمكّنه من النقد البناء.
جوائز وتكريمات :
طوال مسيرته، نال هشام رستم العديد من الجوائز والتكريمات، من بينها:
جائزة أفضل ممثل في أيام قرطاج السينمائية.
تكريم من مهرجان القاهرة السينمائي.
وسام الاستحقاق الثقافي من الجمهورية التونسية.
تكريم خاص في مهرجان قابس للسينما.
هذه الجوائز لم تكن مجرد أوسمة على الجدران، بل كانت اعترافًا بمسيرة طويلة من الالتزام والإبداع.
كان هشام رستم يؤمن أن الفن يجب أن يكون حرًا، صادقًا، ويعكس هموم الناس.
حيث قال في أحد تصريحاته:
"الفن ليس زينة، بل هو روح المجتمع، وعندما يُخنق الفن، تختنق معه الحرية."
نهايته الهادئة... وصدى الغياب :
تُوفي هشام رستم في صمت، دون ضجة إعلامية، لكنه خلّف صدىً كبيرًا في قلوب محبيه.
جنازته شهدت حضورًا كثيفًا من الفنانين والمثقفين والجمهور العادي، ما يدل على حجم الحب الذي ناله في حياته وبعد رحيله.
ورغم الألم، بقيت أعماله تشهد على عظمة رجل آمن برسالته ومضى فيها حتى النهاية.