تُعدّ الإعلامية التونسية هالة الركبي واحدة من أبرز الوجوه التي شكّلت ذاكرة الإعلام السمعي البصري في تونس خلال العقود الماضية.
بصوتها المميز، وحضورها القوي، وأسلوبها الراقي، استطاعت أن تحفر اسمها في وجدان المشاهد التونسي والعربي، لتصبح رمزًا من رموز "الزمن الجميل" في الإعلام.
النشأة والبدايات :
وُلدت هالة الركبي في تونس العاصمة عام 1960، ونشأت في بيئة محافظة، حيث كان والدها ضابطًا في الجيش، وكان معارضًا لدخولها مجال الإعلام.
التألق المهني :
في فترة الثمانينيات والتسعينيات، لمع نجم هالة الركبي كمقدمة برامج على التلفزة الوطنية التونسية.
قدّمت برامج اجتماعية وثقافية تركت بصمة واضحة في المشهد الإعلامي، وتميّزت بأسلوبها الهادئ والرصين، مما أكسبها احترام الجمهور وزملائها على حد سواء.
الاعتزال المفاجئ :
في عام 2010، أعلنت هالة الركبي اعتزالها العمل الإعلامي بشكل مفاجئ، دون تقديم أسباب واضحة.
وقد أثار هذا القرار تساؤلات عديدة في الأوساط الإعلامية والجماهيرية، خاصة وأنها كانت في قمة عطائها المهني.
العودة المؤقتة :
بعد غياب دام أكثر من عقد، عادت هالة الركبي إلى الشاشة في عام 2022 من خلال ظهورها في برنامج "الزمن الجميل" على القناة الوطنية التونسية.
هذا الظهور أعاد إلى الأذهان حضورها المميز وأسلوبها الراقي، وأثار موجة من الحنين بين جمهورها.
الحياة الشخصية :
في ماي 2025، فقدت هالة الركبي زوجها، الطبيب الجراح الدكتور أنيس بن معمر، رئيس قسم الجراحة العامة بالمستشفى الجامعي الحبيب ثامر، بعد صراع طويل مع المرض.
وقد شكّل هذا الحدث صدمة كبيرة لها وللوسطين الإعلامي والطبي في تونس.
هالة الركبي.. مدرسة إعلامية قائمة بذاتها
لم تكن هالة الركبي مجرّد مقدّمة برامج أو وجه تلفزيوني محبوب، بل تحوّلت مع مرور السنوات إلى ما يشبه المدرسة الإعلامية، التي تخرّج على نهجها العديد من الإعلاميين والإعلاميات الشبان.
فقد عُرفت برصانتها العالية، وحرصها على اختيار المواضيع التي تمسّ هموم المواطن التونسي، دون الوقوع في فخ الإثارة أو التهويل.
كانت تؤمن بأن الإعلام رسالة سامية، ولذلك اختارت دائمًا الابتعاد عن كل ما يسيء إلى الذوق العام أو يستخف بعقول المشاهدين.
لم تكن تبحث عن النجومية بقدر ما كانت تسعى إلى التأثير الحقيقي والهادف، ولهذا ظلّت لعقود مرجعًا في المهنية والأخلاقيات الإعلامية.
كما عُرفت بعلاقتها الطيبة بزملائها واحترامها الكبير لفريق العمل، حيث لم تكن تتعامل معهم من موقع النجمة بل من موقع الزميلة القريبة من الجميع.
وحتى بعد انسحابها من الساحة، بقي احترامها راسخًا في الوسط، واستُحضرت في كل مقارنة بين الإعلام النظيف وإعلام الإثارة السريعة، فأصبحت اسمًا يُستشهد به عند الحديث عن الإعلام الرصين والمسؤول في تونس.
رمز نسائي ألهم أجيالًا من الإعلاميات :
كانت هالة الركبي أكثر من مجرد إعلامية ناجحة؛ لقد تحوّلت إلى رمز نسائي ألهم أجيالًا كاملة من النساء التونسيات والعربيات اللواتي وجدن فيها نموذجًا يُحتذى به في المهنية، القوة، والرصانة.
في زمن كانت فيه الوجوه النسائية نادرة على الشاشات، ظهرت الركبي بثقة عالية، وفرضت احترامها ليس فقط بما كانت ترتديه أو بنبرة صوتها، بل بمحتوى ما تقدّمه.
لم تكن تهدف إلى إرضاء الذوق السائد، بل إلى رفع مستواه.
لهذا، وجدت دعمًا كبيرًا من النساء اللواتي كنّ يبحثن عن صورة راقية للمرأة في الإعلام. أما جمهورها، فقد أحبّها لصدقها وعفويتها وثقافتها، إذ كانت تملك قدرة نادرة على أن تجعل المشاهد يشعر بأنه أمام أخت أو صديقة أو ابنة يمكن الوثوق بها.
كانت تدخل بيوت التونسيين كل أسبوع، لكنها كانت تفعل ذلك بلُطف ولباقة، فتركت أثرًا عاطفيًا وإنسانيًا عميقًا في الذاكرة الجماعية.
ولعلّ الغياب الطويل الذي اختارته لم يؤثّر على حب الناس لها، بل زاد من توقهم إلى ظهورها، وهو ما يؤكّد العلاقة القوية التي بنتها مع جمهورها طيلة عقود.
الإرث الإعلامي :
تُعتبر هالة الركبي من الإعلاميات القلائل اللواتي تركن بصمة لا تُمحى في تاريخ الإعلام التونسي.
أسلوبها المتزن، واحترامها للمشاهد، وحرصها على تقديم محتوى هادف، جعل منها قدوة للعديد من الإعلاميين والإعلاميات في تونس وخارجها.
رغم ابتعادها عن الأضواء، يظل اسم هالة الركبي محفورًا في ذاكرة الإعلام التونسي كرمز للرصانة والمهنية.
ومع كل ظهور لها، يتجدد الأمل في عودة زمن الإعلام الجميل، الذي كانت هي إحدى أبرز نجماته.
رؤية نقدية لمشهد إعلامي متغيّر :
رغم سنوات الغياب، لم تتخلّ هالة الركبي عن متابعتها الدقيقة للمشهد الإعلامي التونسي، بل كانت دومًا تعبّر في لقاءاتها القليلة والنادرة عن ملاحظاتها وآرائها بصدق وهدوء، كما عوّدت جمهورها.
كانت ترى أن الإعلام التونسي، بعد الثورة، دخل مرحلة جديدة تتسم بالتحرّر، لكنها في الوقت نفسه مليئة بالفوضى وغياب المعايير. لم تكن ضد التنوّع والانفتاح، بل طالما دعت إلى إعلام يعكس تطوّر المجتمع، لكن ضمن أُطر منضبطة تراعي المسؤولية المهنية والأخلاقية. انتقدت ظاهرة "التنشيط بالصراخ"، وانتشار البرامج السطحية القائمة على الفضائح، معتبرة أن القنوات اليوم تركّز أكثر على نسب المشاهدة من تركيزها على المضمون. علاقتها بالمؤسسات الإعلامية بقيت، رغم ذلك، مبنية على الاحترام، لكنها كانت انتقائية في عودتها، ورفضت الظهور في برامج لا تتناسب مع مبادئها.
وهذا ما جعلها تتأخر في العودة أو تظهر فقط في مناسبات خاصة، لأنها، كما صرّحت في أحد اللقاءات، "لا يمكن أن أطلّ على الناس لمجرد الظهور، بل فقط عندما يكون لدي ما أقدّمه بصدق".
هذا الموقف زاد من احترامها في عيون العاملين في الحقل الإعلامي، وجعل منها صوت ضمير نادر، يذكّر الناس بأن الإعلام رسالة، لا مجرد وسيلة ترفيه.