في تاريخ الرياضة التونسية، هناك أسماء تظل محفورة في الذاكرة رغم قصر مسيرتها، بسبب ما قدمته من أداء استثنائي وشخصية مميزة داخل وخارج الملعب.
ومن بين هؤلاء، يبرز اسم الراحل الهادي بالرخيصة، الملقب بـ"بلّو"، الذي لم يكن مجرد لاعب كرة قدم، بل كان رمزًا للأمل والطموح والإخلاص للفريق والبلاد.
رغم أن مسيرته انقطعت فجأة ومبكرًا، إلا أن بصمته لا تزال حيّة في قلوب الجماهير، وخاصة جماهير نادي الترجي الرياضي التونسي.
النشأة والبدايات :
وُلد الهادي بالرخيصة يوم 28 يونيو 1972 في تونس العاصمة، وتحديدًا في حي باب سويقة العريق، المعروف بولعه بكرة القدم.
نشأ في بيئة شعبية متواضعة، وكان منذ صغره عاشقًا للساحرة المستديرة، حيث بدأ مشواره الكروي في أحياء العاصمة، قبل أن ينضم إلى شبان نادي الترجي الرياضي التونسي، الفريق الذي سيصبح لاحقًا رمزًا له.
تميّز بالرخيصة منذ بداياته بصلابته الدفاعية، وتمركزه الجيد، وحسه القيادي رغم صغر سنه.
وكان يملك قدرات بدنية وفنية أهلته بسرعة للانضمام إلى الفريق الأول للترجي.
المسيرة مع الترجي الرياضي التونسي :
انطلقت المسيرة الاحترافية للهادي بالرخيصة مع الفريق الأول للترجي في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، وتمكن بسرعة من حجز مكانه في التشكيلة الأساسية كقلب دفاع صلب.
وقد ساهم بشكل كبير في تتويجات الترجي المحلية والقارية.
إنجازاته مع الترجي :
البطولة التونسية: كان جزءًا من الفريق الذي فاز بعدة بطولات محلية، وساهم في إحكام سيطرة الترجي على الدوري التونسي في تلك الفترة.
كأس تونس: كان له حضور قوي في الكأس أيضًا، حيث شارك في عدة مباريات مصيرية.
اللقب القاري: في سنة 1994، حقق الترجي الرياضي التونسي لقب دوري أبطال إفريقيا لأول مرة في تاريخه، وكان بالرخيصة أحد أعمدة الفريق في هذا الإنجاز التاريخي. وقد اعتُبر هذا التتويج تتويجًا لمجهودات جيل كامل، وبصمة من بصمات "بلّو" لا تُنسى.
المنتخب الوطني التونسي :
رغم أن مسيرته الدولية لم تدم طويلًا بسبب وفاته المبكرة، إلا أن الهادي بالرخيصة كان لاعبًا دوليًا في صفوف المنتخب الوطني التونسي، وشارك في عدة مباريات رسمية وودية.
وكان يُنظر إليه كأحد المدافعين الذين يمكن أن يمثلوا مستقبل المنتخب في تصفيات كأس العالم وكأس إفريقيا.
شخصيته داخل وخارج الميدان :
كان الهادي بالرخيصة يتمتع بشخصية قوية ومحترمة. داخل الميدان، كان قائدًا بالفطرة، يُلهم زملاءه ويعطي الأمان لخط الدفاع.
وخارج الميدان، عُرف بتواضعه، وروحه المرحة، وحبه للناس.
كما كان يُعتبر قدوة للاعبين الشباب في النادي.
علاقته بجماهير الترجي :
من الصعب الحديث عن الهادي بالرخيصة دون التطرق إلى علاقته الفريدة بجماهير الترجي الرياضي التونسي. فقد كان محبوبًا إلى درجة قلّ نظيرها، ليس فقط بسبب مستواه المميز، بل لما كان يتمتع به من روح قتالية عالية، ووفاء كبير لقميص النادي.
كان يحمل شعار الترجي في قلبه، ويقاتل من أجل الألوان الحمراء والصفراء حتى اللحظة الأخيرة.
وغالبًا ما كانت الجماهير تهتف باسمه في المدرجات، وقد ازداد هذا الحب أضعافًا بعد رحيله، حيث أصبح أحد رموز الوفاء والانتماء للنادي.
الرحيل المفاجئ :
في يوم 4 يناير 1997، وأثناء مباراة ودية جمعت بين الترجي الرياضي وأولمبيك ليون الفرنسي على ملعب المنزه، سقط الهادي بالرخيصة مغشيًا عليه في منتصف المباراة، نتيجة أزمة قلبية مفاجئة.
حاول الطاقم الطبي إنقاذه، لكن دون جدوى.
وفارق الحياة في الملعب عن عمر يناهز 24 سنة فقط، تاركًا صدمة عميقة في قلوب جماهير الترجي وكل التونسيين.
ردود الفعل والحزن الوطني :
شكلت وفاة الهادي بالرخيصة لحظة حزينة في تاريخ الكرة التونسية.
وقد عمت حالة من الذهول والحزن البلاد بأكملها. وخرجت جماهير غفيرة في جنازته، حيث ودعته تونس كما يُودع الأبطال.
ولاتزال صور ذلك اليوم راسخة في ذاكرة الرياضيين.
الدروس المستخلصة من قصته :
قصة الهادي بالرخيصة تركت أثرًا عميقًا في الوسط الرياضي التونسي والعربي، وطرحت عدة تساؤلات حول أهمية الفحوص الطبية للاعبين، والعناية بالصحة القلبية في المجال الرياضي.
فقد شكّلت وفاته المفاجئة صدمة جعلت العديد من الأندية تعيد النظر في الإجراءات الوقائية.
كما أن قصته أصبحت مصدر إلهام ورسالة قوية للشباب: "أن تعيش الحلم حتى لو كان قصيرًا، وأن تترك أثرًا قبل أن تغادر."
الهادي بالرخيصة في الذاكرة الثقافية والفنية :
لم تقتصر مكانة بالرخيصة على الملاعب، بل تسللت إلى الفن والثقافة.
فقد خُصصت له أغانٍ وأعمال وثائقية، من أشهرها أغنية التي لاقت انتشارًا واسعًا بعد وفاته، وتغنت بمسيرته القصيرة والمؤثرة.
كما أن بعض الشعراء كتبوا عنه قصائد رثاء، تُظهر كيف يمكن للاعب كرة قدم أن يتحول إلى رمز ثقافي وشعبي يتجاوز حدود الرياضة.
أثره في اللاعبين الشباب :
حتى بعد وفاته، لا يزال اسم الهادي بالرخيصة يُذكر في مراكز التكوين والمدارس الرياضية كنموذج يُحتذى به. يضرب به المدربون المثل في الانضباط، والروح القتالية، وحب القميص. وتحدث الكثير من اللاعبين التونسيين في السنوات التالية عن كيف ألهمتهم قصة بالرخيصة، وكيف جعلهم يُدركون قيمة التواضع والاجتهاد.
تكريمه :
بعد وفاته، حرصت وزارة الشباب والرياضة التونسية والجامعة التونسية لكرة القدم على تكريمه بعدة طرق، منها:
إطلاق اسمه على ملعب فرعي في العاصمة.
تنظيم مباريات ودية تخليدًا لذكراه.
تخصيص دقيقة صمت في عدد من المباريات بعد وفاته مباشرة، عربون احترام لمسيرته.
غالبًا ما يُقارن الهادي بالرخيصة بلاعبين عالميين رحلوا في سن مبكرة، مثل مارك-فيفيان فوي الكاميروني أو أنطونيو بويرتا الإسباني، وكلهم فارقوا الحياة خلال المباريات.
وهذه المقارنات تُبرز أن "بلها" ليس فقط ظاهرة تونسية، بل يشترك مع نجوم عالميين في المصير والتأثير، ما يجعله واحدًا من الأسماء الخالدة في ذاكرة كرة القدم.
"قلب الأسد": لقب يليق ببطل
لم يكن لقب "قلب الأسد" مجرّد وصف عابر أطلقه المشجعون على الهادي بالرخيصة، بل كان تجسيدًا حقيقيًا لشخصيته القتالية فوق أرضية الميدان. في كل مباراة، كان يلعب بروح المحارب، لا يهاب الالتحامات، ولا يتراجع عن أي تحدٍ دفاعي، وكأن قلبه ينبض بحب القميص أكثر مما ينبض بالحياة نفسها.
المدافع الصلب، رغم سنه الصغيرة، أظهر صلابة وقيادية جعلت منه مثالًا يُحتذى به في مركزه.
وكان كثيرون يرونه قائدًا مستقبليًا للمنتخب التونسي لولا أن الأقدار اختارت أن تكتب نهاية مبكرة لحكايته.
وقد أطلقت عليه جماهير الترجي هذا اللقب بعد وفاته، في تعبير عاطفي عميق عن تقديرهم لوفائه وبسالته.
"قلب الأسد"... لم يكن مجرد لاعب، بل كان روحًا تدافع، وصوتًا يهتف في صمت: "أنا هنا لأحمي، لا لأتراجع".
الإرث والذكرى :
رغم رحيله المبكر، إلا أن اسم "بلها" لم يُنس.
بل ظل حاضرًا في وجدان جماهير الترجي والكرة التونسية:
أطلق اسمه على أكاديمية رياضية ونُظّمت دورات تكريمية باسمه.
في كل عام، يتم نشر صورته وذكره في وسائل الإعلام، وخاصة يوم وفاته.
يعتبره الكثيرون رمزًا للتفاني والروح الرياضية النبيلة.
استُوحيت منه مقولات مثل: "عاش قليلًا… لكنه عاش كبيرًا"، دلالة على عمق تأثيره رغم قصر حياته.
الهادي بالرخيصة لم يكن لاعبًا عاديًا، بل كان روحًا ملهمة لكل من يحلم بتحقيق المجد رغم الصعاب.
رحيله المفاجئ والمبكر جعل منه أسطورة في أعين محبيه، وشخصية خالدة في ذاكرة الرياضة التونسية. مسيرته القصيرة كانت مليئة بالعطاء، وقد كرّس حياته لكرة القدم، وترك وراءه قصة مؤثرة تُحكى للأجيال القادمة.