في سماء الفن التونسي، يسطع نجم الفنانة الكبيرة دليلة مفتاحي كواحدة من أبرز الرموز المسرحية والدرامية التي ساهمت في تشكيل الوعي الثقافي والفني في تونس منذ سبعينيات القرن الماضي.
صاحبة الحضور الطاغي والصوت القوي، لم تكن مجرد ممثلة تقف على الخشبة أو أمام الكاميرا لتؤدي دوراً، بل كانت - وما زالت - أيقونة إبداع حقيقية تُجسّد بأدائها معاناة الناس، وتحمل على عاتقها رسالة الفن الهادف والموقف الصادق.
من جندوبة إلى المسرح الوطني : بدايات مفعمة بالشغف
وُلدت دليلة مفتاحي في أفريل في مدينة جندوبة بالشمال الغربي لتونس، وهي منطقة معروفة بجمال طبيعتها وثراءها الثقافي، ومنها بدأت رحلتها الفنية في سن مبكرة.
منذ نعومة أظافرها، كانت مفتونة بعالم المسرح، فانضمت إلى فرقة المسرح بجندوبة في سن الرابعة عشرة، وهناك بدأت أولى خطواتها على طريق التمثيل.
إصرارها على صقل موهبتها دفعها إلى الالتحاق بـالمعهد العالي للفن المسرحي، حيث تخرّجت وتعمّقت في دراسة التمثيل والإخراج، مما مكنها من أن تكون فنانة كاملة تجمع بين الحس الفني والثقافة المسرحية العميقة.
وقد برزت في تلك الفترة ضمن الفرقة القارة بجندوبة، قبل أن تنتقل إلى المسرح الوطني التونسي، حيث سطع نجمها أكثر مع المخرج الكبير المنصف السويسي.
مسرح دليلة مفتاحي: مدرسة في الالتزام
على خشبة المسرح، ظهرت دليلة مفتاحي كممثلة ذات أسلوب خاص ومميز.
أدّت أدوارًا معقدة ومركّبة، وغالبًا ما جسّدت شخصيات نسائية قوية، عانت، تحدّت، وتمردت على أوضاعها الاجتماعية.
شاركت في أعمال تحمل هموماً إنسانية واجتماعية، مثل مسرحية "بوابة 52" التي عالجت قضايا الحريات والانكسارات، ومسرحية "من حقي نحلم" التي لامست حقوق الطفل والمرأة.
كما عملت مع عدد من الفرق المستقلة والخاصة، وقدّمت عروضاً في مختلف ولايات الجمهورية، مؤمنة بأن المسرح لا يُختزل في العاصمة، وأن على الفنان أن يذهب إلى جمهوره أينما كان.
بهذه الروح، كانت دائمًا قريبة من الناس، لا تتعالى على خشبتها، بل تنزل بها لتلامس قلوب الجماهير.
دليلة مفتاحي في التلفزيون : وجه دائم الحضور في بيوت التونسيين
لم يقتصر إبداع دليلة مفتاحي على المسرح فقط، بل امتد ليشمل التلفزيون، حيث أصبحت من الوجوه المحبوبة لدى المشاهد التونسي.
شاركت في العديد من المسلسلات الناجحة منذ التسعينيات، من بينها :
الدوار (1992)
عنبر الليل (1999)
منامة عروسية (2000)
صيد الريم (2008)
مكتوب (2009)
ناعورة الهواء (2014-2015)
الدوامة (2017)
علي شورّب (2018)
ما يُميّز أدوارها التلفزيونية هو قدرتها على أداء شخصيات الأم، المرأة المكافحة، أو القوية ذات الكاريزما، بأسلوب فيه الكثير من الصدق والعمق.
لم تكن شخصياتها سطحية أو نمطية، بل دائمًا غنية بالتفاصيل والإنسانية.
في السينما : حضور وازن رغم قلة الأدوار
رغم أن حضورها في السينما لم يكن بالزخم نفسه كما في المسرح أو التلفزيون، فإن دليلة مفتاحي شاركت في عدد من الأفلام المهمة مثل:
Khorma (2002)
The Wedding Song (2008)
Black Gold (2011)
L’Albatros (2021)
وقد قدّمت في هذه الأفلام أداءً ناضجًا، عكست فيه ثراء تجربتها وقدرتها على التلوّن بين مختلف الوسائط الفنية.
التكريم والتقدير : فنانة يُحتفى بها في الوطن العربي
تم تكريم دليلة مفتاحي في مناسبات عديدة داخل تونس وخارجها.
من أبرز هذه التكريمات، تكريمها في مهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي سنة 2023، حيث أُشيد بمسيرتها الغنية، وتم اعتبارها من الرموز الفنية التي ساهمت في صناعة الذاكرة المسرحية العربية.
وقد ألقت خلال هذا التكريم كلمة مؤثرة، عبّرت فيها عن حبها للفن والمسرح، وعن ضرورة الحفاظ على المسرح العربي كمجال مقاومة وحرية وفكر.
الجانب الإنساني: فنانة بقلب أمّ
بعيدًا عن الأضواء، تُعرف دليلة مفتاحي بتواضعها وحرصها على دعم الفنانين الشبان.
تعمل على تقديم النصح والمساعدة لكل من يطرق بابها، وتُؤمن أن دور الفنان لا يتوقف عند التمثيل، بل يشمل التربية الثقافية للأجيال الصاعدة.
كما أنها من الأصوات النسائية المدافعة عن قضايا المرأة والعدالة الاجتماعية، وتجعل من فنّها منبرًا لهذه الرسائل.
مسيرة من الذهب :
دليلة مفتاحي ليست مجرد فنانة قديرة، بل هي تجربة فنية وإنسانية متكاملة، تعكس عمق الفن التونسي وروحه.
جسّدت المرأة التونسية في كل تجلياتها: القوية، المنكسرة، الأم، الزوجة، المناضلة، والإنسانة. هي مرآة لواقعنا، وصوتٌ لا يزال يهمس على الخشبة وفي الشاشة: "الفن أمانة، والصدق هو الطريق إليه".
وفي زمن تتغير فيه الأذواق، تبقى أمثال دليلة مفتاحي علامات مضيئة لا تُنسى.