المرأة التي رسمت البهجة في رمضان : نجمة الفوازير عائدة بوبكر بين المجد الفني والاعتزال


وسط زخم الأسماء في الساحة الفنية التونسية، تلمع نجمة استطاعت أن تجمع بين التمثيل المسرحي المتين، الأداء التلفزيوني المقنع، وروح الاستعراض البهيجة.
إنها الفنانة عائدة بوبكر، التي يُطلق عليها الكثيرون "ملكة الفوازير" في تونس، نظراً لما قدمته من أعمال خفيفة الظل، ممتعة ومبدعة، أدخلت البهجة إلى قلوب التونسيين لعقود.
عُرفت عائدة بوبكر بجمال حضورها، وذكائها في الأداء، وقدرتها على التلون بين أدوار مختلفة، من الدراما الاجتماعية إلى الكوميديا، ومن المسرح إلى التلفزيون، ومن الأدوار الجادة إلى الاستعراضية. هي فنانة متكاملة، تشبه المسرح في عمقه، وتشبه الفوازير في خفتها ورشاقتها.

النشأة والبدايات :

ولدت عائدة بوبكر في تونس العاصمة، وبرزت موهبتها منذ سن مبكرة، حيث كانت تعشق الرقص والتمثيل والغناء. التحقت بالمعهد العالي للفن المسرحي، وهناك انطلقت رحلتها الفنية، وتعلمت على يد كبار المسرحيين التونسيين أسس الأداء، التعبير، والحركة.
بدأت تجربتها من المسرح، حيث شاركت في عدة مسرحيات كلاسيكية ومعاصرة، ثم انتقلت إلى التلفزيون، قبل أن تنفجر موهبتها كاملة في عالم الفوازير، الذي صنع منها نجمة محبوبة لدى الصغار والكبار.

نجمة الفوازير : تجربة فنية فريدة

لقب "ملكة الفوازير" لم يُمنح لعائدة بوبكر عبثًا.
في تسعينيات القرن الماضي، كانت فوازير رمضان التونسية جزءًا من الذاكرة الجماعية، وكانت عائدة هي الوجه الأبرز والأكثر ارتباطًا بهذا التقليد الرمضاني الفني.

تميزت فوازيرها بما يلي :

الطرافة والذكاء في الطرح : كانت تحمل رسائل ثقافية وتعليمية مغلفة بروح الفكاهة.
الاستعراضات الراقصة: قدمت لوحات راقصة تم إعدادها باحتراف، أظهرت فيها قدرات جسدية وحركية كبيرة.
التنوع في الشخصيات: أدّت شخصيات متعددة ببراعة، مثل الفلاحة، المعلمة، العجوز، الشرطية، وغيرها.
التواصل المباشر مع الأطفال: كانت تتحدث بلغتهم، وتدعوهم للتفكير وحل الألغاز، مما أكسبها محبة خاصة لدى جمهور الأطفال والعائلات.
وقد أسهمت هذه الفوازير في إبراز صورة المرأة المبدعة والمرحة في الإعلام التونسي، بعيدًا عن القوالب النمطية، وأثبتت أن الفن يمكن أن يكون ممتعًا ومفيدًا في آنٍ واحد.

المسرح : الأساس المتين

لم تتخلَّ عائدة يومًا عن المسرح، الذي تعتبره "البيت الأول الذي يُربّي الممثل ويُصقله".
وقد شاركت في عدة أعمال مسرحية مع فرق مشهورة، منها :
"نساء بلا حدود": مسرحية تلامس واقع المرأة التونسية في أبعاده الاجتماعية والنفسية.
"العرض الأخير": عمل درامي نفسي قائم على الحوارات الداخلية والتمثيل الصامت أحيانًا.
"هذيان": تجربة فنية جديدة جمعت بين التمثيل والرقص التعبيري.
أبدعت عائدة في تقديم الأدوار المركبة، وعُرفت بقدرتها على التعبير الجسدي والانفعالي بدقة، ما جعلها تحظى باحترام عميق من جمهور المسرح والنقاد.

الدراما التلفزيونية : حضور ناضج وهادئ

في التلفزيون، لم تتخذ عائدة طريق البطولة المطلقة، لكنها كانت دومًا عنصرًا أساسياً في نجاح أي عمل تظهر فيه.
من أبرز مشاركاتها :

فوانيس (1994): أول فوازير تونسية، أعدها رؤوف كوكة وأخرجها صلاح الصغيري، وكانت من بطولة عائدة بوبكر.
أحلام الشاشة (1995): فوازير رمضانية من إخراج محمد رشاد بلغيث.
في رمشة عين (1996): فوازير رمضانية من إخراج رياض الكعبي.
نغمة وحكاية (2000): فوازير رمضانية من إخراج رياض الكعبي.
جاري يا حمودة (2004): مسلسل كوميدي جسدت فيه دور "عزيزة"، وكان آخر أعمالها قبل اعتزالها الفن.
تميز أداؤها بالتوازن، وعدم المبالغة، مع احترام عميق لبناء الشخصية والإيقاع الدرامي.
الأسلوب والرؤية الفنية :
عائدة بوبكر فنانة تؤمن بـ "الصدق قبل الأداء"، وترى أن الممثل الجيد هو من يتقمص الدور بروحه، وليس فقط بصوته وجسده.
تحب الأدوار الصعبة، وتبتعد عن الأعمال التجارية الخالية من المعنى.
هي أيضًا من الفنانات الداعمات للمواهب الشابة، وغالبًا ما تشارك في مشاريع مع فنانين صاعدين، إيمانًا منها بضرورة تجديد المشهد الفني التونسي.

حضورها الاستثنائي في الفوازير : بين التمثيل والاستعراض

تميزت عائدة بوبكر في الفوازير التونسية بأسلوب أدائي متكامل جمع بين التمثيل، الغناء، والرقص الاستعراضي.
لم تكن تقدم مجرد مشاهد خفيفة، بل كانت تُجسّد شخصيات متعددة باحتراف، وتُدخل الجمهور في أجواء مليئة بالحيوية والمرح، مع لمسة فنية واضحة.
ويُجمع النقاد أن نجاح الفوازير لم يكن ليتحقق لولا الكاريزما والحضور الفني لعائدة، التي أتقنت مخاطبة الجمهور بلغة بسيطة ولكن عميقة.

عائدة بوبكر: صورة من صور المرأة التونسية في الفن

جسّدت عائدة بوبكر في أعمالها صورًا متعددة للمرأة التونسية: المرأة العاملة، البسيطة، المرحة، الحكيمة، وحتى المستضعفة.
وقدّمت تلك الشخصيات بطريقة تُظهر قوة المرأة وروحها المرنة والمبدعة. لذا، فإنها لا تمثّل فقط فنانة ناجحة، بل رمزًا لأنوثة تونسية أصيلة، تعكس قيم المجتمع وتطوّره.

الجوائز والتكريمات :

طوال مسيرتها، حازت عائدة بوبكر على عدة جوائز وتكريمات، منها:
جائزة أفضل أداء نسائي في المسرح الوطني.
تكريم خاص من التلفزة التونسية لدورها في الفوازير الرمضانية.
وسام الثقافة من وزارة الشؤون الثقافية.

الاعتزال وارتداء الحجاب : اختيار شخصي ومسار جديد

بعد سنوات من التألق الفني في المسرح والتلفزيون، وخاصة من خلال الفوازير الرمضانية التي جعلتها وجها محبوبا لدى العائلات التونسية، فاجأت الفنانة عائدة بوبكر جمهورها بقرار اعتزالها الفن في منتصف العقد الأول من الألفينات، عقب مشاركتها في المسلسل الكوميدي "جاري يا حمودة" سنة 2004.
اختارت عائدة بوبكر الانسحاب من الأضواء بهدوء، دون ضجة إعلامية، لتبدأ مرحلة جديدة في حياتها اتسمت بالخصوصية والابتعاد عن المجال الفني.
كما ظهرت لاحقًا بالحجاب، وهو ما أثار احترام جمهورها الذي قدّر قرارها ورأى فيه تعبيرًا عن قناعات شخصية وروحية.
رغم اختفائها عن الساحة، بقيت عائدة حاضرة في الذاكرة الثقافية التونسية، سواء كـ"ملكة الفوازير" أو كممثلة ذات حضور آسر في زمن ازدهار الفن التلفزيوني والمسرحي في تونس.
وقد تجددت مشاعر الحنين إليها مع كل ظهور نادر لها على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يعبّر محبوها عن احترامهم لمسيرتها وقراراتها.
عائدة بوبكر ليست مجرد فنانة تؤدي أدوارًا، بل هي ذاكرة حية لجيل كامل، خاصة من عرفوها عبر الفوازير.
وهي أيضًا مثال على التوازن بين المتعة الفنية والالتزام بالقيمة.

علاقتها بالجمهور التونسي :

رغم انسحابها من المشهد، إلا أن عائدة بوبكر لا تزال تحظى بحب كبير من الجمهور التونسي، حيث تُستعاد صورها ومشاهد من أعمالها القديمة كلما عاد الحديث عن الزمن الجميل للفن في تونس.
ولعل هذا الحب المتواصل نابع من صدقها الفني وابتعادها عن التصنع أو السعي وراء الأضواء، ما جعلها أقرب إلى قلوب الناس.

ظهورها النادر بعد الاعتزال :

بعد سنوات طويلة من الغياب، تداولت صفحات التواصل الاجتماعي صورًا حديثة للفنانة عائدة بوبكر، ظهرت فيها مرتدية الحجاب، وإلى جانبها ابنها.
وقد لاقت تلك الصور تفاعلًا واسعًا وتعليقات مُشجعة من جمهورها الذي عبّر عن اشتياقه إليها واحترامه لمسيرتها وخياراتها الشخصية.
هذا التفاعل العفوي كشف عن مكانتها الوجدانية العميقة في ذاكرة التونسيين.

رمز من رموز جيل التسعينيات :

تُعد عائدة بوبكر من الأسماء التي شكّلت ملامح جيل فني تونسي نشأ في فترة التسعينيات، وهو الجيل الذي جمع بين التكوين الأكاديمي والرؤية الإبداعية، فاستطاع أن يُقدّم فنًا جماهيريًا دون أن يفرّط في الجودة.
وقد ساهمت عائدة في جعل الفن الرمضاني موعدًا ينتظره التونسيون سنويًا، خاصة في زمن لم تكن فيه الوسائط الرقمية قد غزت البيوت بعد.
تعليقات