سعاد محاسن، واسمها الحقيقي سعاد الشارني، تُعد واحدة من أيقونات الفن التونسي في مجالات الغناء، التمثيل، والرقص المسرحي.
وُلدت في خمسينيات القرن الماضي بولاية الكاف شمال غربي تونس، المدينة التي أنجبت العديد من القامات الفنية والثقافية، وترعرعت في بيئة محافظة لكن غنية بالتراث الشعبي، حيث كانت الأغنية الريفية والبدوية حاضرة في كل المناسبات.
نشأت في بيت أحبّ الأصالة، وهو ما جعلها مشبعة منذ الطفولة بنبض التراث الشعبي.
لم تكن بدايتها سهلة، لكنها كانت مثابرة ومؤمنة بنفسها. تنقّلت بين الكاف وتونس العاصمة بحثًا عن فرص تثبت فيها صوتها المميز وقدرتها على الأداء المسرحي التعبيري. في زمن كانت فيه الساحة الفنية مقتصرة على عدد قليل من الأسماء النسائية، فرضت سعاد محاسن نفسها بقوة حضورها، وخامة صوتها، وموهبتها المركّبة.
لم تكن مجرد مطربة، بل كانت فنانة شاملة : تؤدي، تغني، ترقص، وتعيش الدور على الخشبة بروح عالية.
النشأة والبدايات الفنية : من الكاف إلى المجد
وُلدت سعاد محاسن في مدينة الكاف، وتُعتبر من العائلات المعروفة محليًا.
عاشت طفولتها بين الجبال والمروج، واختلطت منذ سن مبكرة بالبيئة الريفية، حيث الأغاني الشعبية تحكي هموم الناس وفرحهم، والحكايات تنساب من أفواه الجدّات كأنها أناشيد مقدسة.
هذا التراكم الثقافي أثّر بعمق في شخصيتها الفنية لاحقًا.
كانت في المدرسة تشارك بانتظام في النشاطات الثقافية، لا سيما في المناسبات الوطنية والدينية، حيث أدّت أغاني تراثية أعجبت الأساتذة وزملاءها.
لاحظ الجميع صوتها القوي وقدرتها على التحكم في المقامات، رغم أنها لم تكن قد تلقت أي تدريب موسيقي أكاديمي بعد.
هذا ما شجعها، فور انتقالها إلى العاصمة، على الالتحاق بـمعهد الموسيقى العربيّة، حيث صقلت موهبتها وتعلّمت أصول المقامات والغناء الشرقي.
عُرفت في بدايتها باسمها الحقيقي، ثم اختارت اسم "سعاد محاسن" كإسم فني، اعتقادًا منها أن الفن يجب أن يحمل هوية متجددة، ولتمييز شخصيتها الفنية عن حياتها الشخصية.
مسيرتها الغنائية : صوت ريفي أصيل وسط الأضواء
رغم أنها لم تسعَ إلى نجومية استعراضية، فإن صوتها الصافي والمليء بالعاطفة جعلها محبوبة جماهيريًا. عُرفت بأداء الأغنية الشعبية التونسية بطريقة تزاوج بين الإحساس والاحتراف.
لم تكن فقط تردّد الكلمات، بل كانت تعيشها وتشحنها بانفعالاتها الخاصة.
من أشهر أغانيها التي لا تزال تُذاع وتُتداول عبر الإذاعة الوطنية ومواقع الإنترنت :
"يا طير الحمام تغني"
"ريم الفيالة"
"شنو ذنبي أنا"
"أنا عصفورة"
"داني داني"
"مهري دينار"
"سافر خلى دموعي"
"سيدي عمر"
هذه الأغاني لم تكن فقط شعبية بل كانت محمّلة بروح الهوية التونسية، وقد أدّتها بأسلوب يمزج بين الأداء الطربي التقليدي والتوزيع الشعبي السهل الممتنع.
المسرح والتمثيل: رقصٌ، أداءٌ، وحضورٌ فوق الخشبة
في المسرح، وجدت سعاد محاسن مساحة تعبّر فيها عن طاقاتها التمثيلية والبدنية.
لم تكن ممثلة فحسب، بل كانت أيضًا راقصة تعبيرية. انضمت إلى فرقة بلدية تونس للتمثيل، التي كانت من أبرز الفرق المسرحية في البلاد آنذاك، وعملت تحت إشراف أسماء كبيرة في المسرح التونسي.
من أشهر مشاركاتها :
مسرحية "الجمل ضحك ضحكة"
مسرحية "الهاني بو دربالة" (1968)
مسرحية "الزير سالم"، حيث أدّت دور الملكة بجرأة لافتة.
في وقت لاحق، بدأت تشارك في الأعمال التلفزيونية، حيث عُرفت بدور "علجية" في مسلسل "خالتي كمّوشة" الذي عرض في أواخر التسعينات، ثم ظهرت في مسلسل "عنبر الليل" (1999) و**"نجوم الليل" الجزء الثالث (2011)**.
كما أدّت دورًا في فيلم "المشروع" (2009)، وهو من إخراج ابنها محمد علي النهدي.
الحياة الشخصية : حب، وفن، وأسرة
عاشت سعاد محاسن قصة حب قوية مع الفنان الكوميدي الكبير الأمين النهدي، وهو من أبرز ممثلي الكوميديا في تونس.
تزوجت منه، وشكّلا معًا ثنائيًا فنيًا وإنسانيًا مؤثرًا. أنجبت منه ولدين، من بينهم الممثل والمخرج محمد علي النهدي، الذي ورث عنها حب المسرح وورث عن والده حس الفكاهة.
بحسب تصريحات ابنها، فإن سعاد محاسن أمً محبة وداعمة، كانت تجمع بين الصرامة في تربية أبنائها والرقة في معاملتها لهم.
كما أنها دعمت مسيرة زوجها وابنها، حتى في فترات تراجع نشاطها الفني.
المرض وغياب الذاكرة : حضور في القلوب رغم الغياب
في السنوات الأخيرة، دخلت الفنانة سعاد محاسن مرحلة دقيقة من حياتها، بعد أن أصيبت بمرض الزهايمر، ذاك المرض القاسي الذي يسرق الذكريات ويُطفئ الوعي شيئًا فشيئًا، لكنه لا يستطيع محو الأثر الذي يتركه الإنسان في قلوب الآخرين.
لقد اختارت العائلة، في ظل تدهور حالتها الصحية، أن تُبعدها عن الأضواء وتحافظ على كرامتها وراحتها بعيدًا عن صخب الكاميرات والحوارات الإعلامية.
الزهايمر لم ينسِ الجمهور التونسي من هي سعاد محاسن، بل جعله يستحضرها أكثر، بشوق وحنين ومحبة كبيرة. كثيرون كتبوا عنها في الصحف والمنصات، وعبّروا عن امتنانهم لامرأة كانت صوتًا حرًا وفنانة سبّاقة ومثالًا للمرأة القوية.
رغم أن المرض قد غيّب الذاكرة، فإن من يعرف سعاد محاسن يعلم جيدًا أنها زرعت في المسرح والموسيقى والإذاعة والتلفزيون بذورًا لا تموت، وأن غيابها الجسدي لم يكن يومًا غيابًا عن وجدان الشعب التونسي.
بقيت في أعين جمهورها "علجية" و"الملكة" و"صوت الريف"، وبقي اسمها حيًا يُتداول كلما ذُكر الفن النسائي الأصيل في تونس.
اليوم، تواجه الفنانة سعاد محاسن هذه المرحلة من حياتها في كنف عائلتها، وتحت رعاية من يحبونها.
وما يحتاجه فنان بمثل قامتها هو أن نُخلد ذكراه وهو حيّ، وأن نكرّمه في حياته لا بعد غيابه، وأن نُعيد إحياء أعماله وتعريف الأجيال الجديدة بقيمته الفنية والإنسانية.
شهادات فنية في حقها : الامتنان الصادق رغم الصمت الطويل
رغم أنها غابت عن الساحة الفنية منذ سنوات ، إلا أن سعاد محاسن لم تغب أبدًا عن قلوب رفاقها في الميدان الفني، ولا عن ذاكرة الإعلاميين والمثقفين التونسيين.
مع إعلان إصابتها بمرض الزهايمر، توالت شهادات المحبة والدعاء والتقدير من شخصيات بارزة عبّرت عن أسفها لغيابها، وإعجابها الكبير بإرثها الفني.
صرّح الممثل الأمين النهدي، وهو زوجها السابق ورفيق دربها، في أكثر من مناسبة، بأن سعاد محاسن كانت امرأة قوية، وموهوبة، ومختلفة عن كل فنانات جيلها، وكانت تحب المسرح والموسيقى بإخلاص نادر.
وفي إحدى لقاءاته التلفزيونية، قال بنبرة متأثرة:
"سعاد ما تنجمش تمشي كيف الناس الكل.. سعاد فنانة موش عادية. مرض الزهايمر ما ينجمش يمحي روحها."
كما تحدّث ابنها الفنان محمد علي النهدي في أكثر من حوار عن والدته، وقال إنها تعيش اليوم في عزلة بسبب المرض، لكنها "محفوظة في قلوب كل من عرفها، وكل من احترم مسيرتها."
وأضاف أنها زرعت فيه حب الفن منذ الطفولة، وأنه مدين لها ولروحها المسرحية المتمردة.
تكريم غائب الجسد حاضر القيمة
رغم ابتعادها عن الأضواء، لم تُنسَ سعاد محاسن من قبل بعض الجهات الفنية والثقافية.
فقد تم تخصيص فقرات لتكريم اسمها في عدد من المهرجانات المسرحية والموسيقية، مثل أيام قرطاج المسرحية، وبعض الملتقيات الثقافية في الشمال الغربي، حيث نشأت.
كما خصّصت وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة برامج كاملة عن مسيرتها، خصوصًا خلال شهر رمضان أو في مناسبات فنية وطنية.
من أبرز اللحظات التي لقيت صدى كبيرًا، حلقة تلفزية من برنامج تونسي سلطت الضوء على مسيرتها، وقد ظهر خلالها ابنها محمد علي النهدي متأثرًا وهو يتحدث عن والدته، وعن حزن العائلة لما حلّ بها، مؤكدًا أنها لا تزال "تعيش في عالمها الخاص، لكن قلبها ما يزال نابضًا بالفن والحب."
المرض لا يمحو الذاكرة الجماعية
من المثير للتأمل أن مرض الزهايمر ، الذي يُفقد الإنسان ذاكرته ، لا يستطيع أن يمحو الذاكرة الجماعية التي يحملها الآخرون عنه.
هذه المفارقة المؤثرة تنطبق على سعاد محاسن، التي قد لا تتذكر الأدوار التي لعبتها، أو الأغاني التي أدّتها، أو التصفيق الذي رافقها على الخشبة.
لكنها موجودة في الذاكرة الحيّة لكل من عرفها أو سمع صوتها أو شاهدها على التلفاز.
وهكذا يتحوّل الجمهور نفسه إلى ذاكرة الفنان، يرد له الجميل في لحظات الضعف، ويصون تاريخه في غيابه. واليوم، فإن أعظم تكريم يمكن تقديمه لسعاد محاسن هو إعادة نشر أعمالها، توثيق سيرتها بدقة، والاعتراف بقيمتها كجزء لا يتجزأ من تاريخ الفن النسائي التونسي.
دعوات لتكريم حيّ : فنانة يجب أن تُكرّم في حياتها
في ظل كل هذه الشهادات، لا تزال أصوات كثيرة في الوسط الثقافي تطالب بـتكريم سعاد محاسن وهي على قيد الحياة، وعدم الاكتفاء بالذكرى أو التقدير المتأخر. بعض الفنانين تحدّثوا في وسائل الإعلام وأكدوا أن اسمًا مثل سعاد محاسن يستحق أن يُطلق على مسرح، أو تُخصّص له أمسية فنية، أو تُعاد برمجة أعمالها المسرحية والتلفزية.
وتكرّرت الدعوات الموجهة إلى وزارة الشؤون الثقافية التونسية، وإلى الإعلام الرسمي، للقيام بمبادرات تليق بتاريخها، وتكون رسالة وفاء للفنانين الذين أعطوا ولم يطلبوا مقابلًا، واختفوا عن الأضواء في صمت مؤلم.
المرض ليس نهاية، والصمت ليس اختفاءً، وسعاد محاسن – رغم غيابها الجسدي – لا تزال واحدة من رموز الفن التونسي الأصيل.
شهادات الفنانين، دموع ابنها، احترام زوجها السابق، وتعلّق الجمهور بها، كلّها أدلة على أن الفن الحقيقي لا يموت، وأن من أبدعت مثلها لا تُنسى حتى لو نسيت هي بعضًا من ذاكرتها.