في ذاكرة الفن الشعبي التونسي، تقف أسماء عديدة صنعت مجده وحفرت حضورها في الوجدان الجمعي، لكن قلة منها استطاعت أن تجمع بين الأصالة والعفوية، بين الالتزام بالهوية والتعبير الصادق عن الوجع اليومي، وبين الأداء الغنائي الراسخ والتمثيل الصادق لمكانة المرأة في المجتمع.
من بين هذه الأسماء، تبرز الفنانة فاطمة بوساحة، التي يمكن اعتبارها واحدة من أهم الأصوات النسائية التي طبعت الأغنية الشعبية التونسية ببصمتها الخاصة.
ولدت فاطمة بوساحة في زمن كانت فيه المرأة تصارع كي تُسمع، وواجهت ظروفًا صعبة في بداياتها، لكنها لم تتخلّ عن حلمها ولم تنكسر أمام نظرة المجتمع الضيقة. بل على العكس، جعلت من معاناتها مادة فنية، ومن صوتها وسيلتها لنقل نبض الشارع ومشاعر الفئات المهمشة.
صعدت على ركح الحياة والفن دون تكلّف، وفرضت حضورها بطريقتها الفطرية الصادقة، حتى أصبحت واحدة من رموز الأغنية الشعبية التي لا تُنسى.
رحلت فاطمة بوساحة عن دنيانا في صمت، لكن صوتها لا يزال يصدح في حفلات الأعراس، وفي الإذاعات الجهوية، وفي ذاكرة كل من عرفها أو استمع إلى أغانيها الصادقة.
النشأة والبدايات :
وُلدت فاطمة بوساحة في أحد الأحياء العتيقة والشعبية بتونس العاصمة، في فترة ما بعد الاستقلال، وسط واقع اجتماعي صعب كانت فيه المرأة ما تزال تعاني من تهميش مزدوج : تهميش اجتماعي واقتصادي، وتهميش فني وثقافي.
لم تكن تنتمي إلى عائلة فنية أو ميسورة، بل نشأت في وسط بسيط، بين نساء يعشن الكدح اليومي من أجل البقاء، ورجال يطحنهم العمل الشاق والحياة القاسية.
منذ صغرها، أبدت اهتمامًا واضحًا بالأغنية الشعبية، خاصة في الأعراس والمناسبات، حيث كانت تتردد على الأعراس النسائية وتقلّد الأصوات النسائية الشهيرة، مثل زينة وعزيزة وعلية.
كانت تتعلم بالفطرة، تحفظ بالكلمة واللحن، وتُعيد إنتاج الأغاني بإحساس فريد.
الطفولة والصوت المبكر
لم يكن من السهل على فتاة صغيرة في تلك الفترة أن تحلم بالغناء.
لكن فاطمة، بعنادها وموهبتها، بدأت تشق طريقها بين الجدران الضيقة، وكانت أول تجاربها الغنائية في الأعراس العائلية.
سرعان ما لاحظ المحيطون بها جمال صوتها واختلافه، فرغم أنه لم يكن صوتًا مدرّبًا، إلا أنه كان قويًا، صادحًا، ومعبرًا بشكل استثنائي.
الانطلاقة الفنية في مجتمع تقليدي
بدأت فاطمة بوساحة في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات بالظهور في الأعراس، وخاصة في الأحياء الشعبية مثل باب سويقة، الحلفاوين، جبل الجلود، والكبارية.
تميّزت بسرعة في هذا الفضاء بفضل قدرتها على التواصل مع الجمهور، وبفضل غنائها الذي كان يجمع بين الحزن والفرح، وبين الصدق والتحدي.
لم تكن تغني فقط للحب أو الفرح، بل كانت تدخل مواضيع مثل الغدر، الخيانة، الصبر، الوجع، والكرامة. وبذلك أصبحت أكثر من مؤدية، بل كانت تحكي قصص نساء مثلها : عاملات، أمهات، نساء وحيدات، عاشقات مكسورات.
أغانيها في الأوساط الشعبية
خلال تلك الفترة، برزت فاطمة كصوت محبّب لدى الفئات الفقيرة والمتوسطة، وانتشرت أشرطتها المسجلة بطريقة "الكاسات"، والتي كانت تُباع في الأسواق الشعبية بكثافة.
وكانت هذه الوسيلة هي قناتها الوحيدة للوصول إلى الجمهور، في ظل غياب الدعم الإعلامي الرسمي أو التسجيلات الكبرى.
أغانيها مثل :
"وين يبيعو فيك"
"يا ميمة قولي لولدي"
"ما نحبكش بالقوة"
"خليتو وقلبي معاه"
"الزين مش كل شيء"
"عمي الشيفور"
"كرهبة كمال"
"عالشيباني وسّع"
أصبحت جزءًا من ذاكرة الأعراس والمناسبات، وأثرت في أجيال كاملة من النساء.
أسلوبها الغنائي وتميّزها الفني
امتلكت فاطمة صوتًا صافيًا ومليئًا بالإحساس، وكانت تُعرف بقدرتها على إيصال المعنى بكل صدق.
كانت تغني من قلبها، لا من حنجرتها فقط، ما جعل المتلقي يشعر وكأنها تحكي حكايته.
وكانت تستعمل الارتجال الصوتي بطريقتها الخاصة، فتُضفي طابعًا شخصيًا على الأغاني حتى وإن كانت من التراث.
المزج بين التقاليد والجرأة
كانت فاطمة من القلائل الذين نجحوا في المزج بين احترام التقاليد الشعبية والجرأة في الأداء.
لم تخفِ مواقفها من المجتمع الذكوري، بل عبّرت عنها بوضوح في أغانيها.
وكانت غالبًا ما تلقي كلمات قاسية في حق الرجال الذين لا يحترمون المرأة، لكنها في المقابل، غنّت للحب الحقيقي والوفاء والمودة.
الفرقة الموسيقية وطابع الأداء
أدّت فاطمة معظم أعمالها بمرافقة فرق موسيقية شعبية صغيرة، تعتمد على آلات مثل المزود، الطبلة، الزكرة، والدربوكة.
وكان لأدائها الحي تأثير كبير على الجمهور، خاصة في الأعراس، حيث كانت تعرف كيف ترفع حرارة الحفل، وتدير الأجواء بنبرة قيادية واحترافية رغم أنها لم تتعلّم في معاهد فنية.
التهميش والإقصاء من التلفزة
رغم شهرتها الكبيرة في الأوساط الشعبية، إلا أن فاطمة بوساحة لم تجد موطئ قدم في الإعلام الرسمي.
لم تستدعَ إلى البرامج التلفزيونية الوطنية، ولم تسجل أغانيها في الإذاعة إلا نادرًا، وظلت حبيسة الأشرطة الشعبية.
ويُعزى هذا التهميش إلى النظرة "النخبوية" التي كانت سائدة في المؤسسات الثقافية، حيث تم اعتبار الأغنية الشعبية "منخفضة القيمة"، وفنانيها من الدرجة الثانية. وهو ما حرم فاطمة من الدعم المادي والمعنوي، ومن التقدير الذي تستحقه.
الوضع المعيشي في أواخر حياتها
في أواخر حياتها، عاشت فاطمة بوساحة ظروفًا صعبة، فبسبب قلة الحفلات وضعف الموارد، عانت من التهميش المادي.
كما تعرضت لوعكات صحية لم تجد لها رعاية كافية.
ولم تكن هناك جهة رسمية أو نقابة فنية تدعمها.
بل تركت لمصيرها، مثل كثير من الفنانين الشعبيين.
فاطمة بوساحة الإنسانة : قلب كبير وكرم لا يُنسى
حياة بسيطة ونفس سخية
رغم شهرتها الواسعة في الأوساط الشعبية، عاشت فاطمة بوساحة حياة بسيطة ومتواضعة.
كانت تُعرف بكرمها وسخائها، حيث لم تتردد يومًا في تقديم المساعدة للمحتاجين، سواءً من خلال دعمهم ماديًا أو معنويًا.
هذا الجانب من شخصيتها جعلها محبوبة ليس فقط كفنانة، بل كإنسانة تحمل هموم الآخرين وتشاركهم أفراحهم وأحزانهم.
علاقاتها الاجتماعية ومواقفها النبيلة
كانت فاطمة بوساحة قريبة من الناس، تشاركهم تفاصيل حياتهم اليومية.
لم تكن تتعامل بفوقية أو تضع حواجز بينها وبين جمهورها.
بل كانت تستمع إليهم، وتغني لهم، وتواسيهم في محنهم. هذا التواضع والطيبة جعلتها محبوبة من الجميع، وخلّد ذكراها في قلوب محبيها.
الرحيل المفجع وردود الفعل
في 27 أكتوبر 2015، غيّب الموت الفنانة الشعبية التونسية فاطمة بوساحة بعد صراع مرير مع المرض، وقد رحلت في صمت، كما كانت دائمًا تعيش على الهامش، دون أن تحظى بالتقدير الذي تستحقه من الجهات الرسمية والإعلامية.
لم تُخصّص لها التغطية اللازمة في وسائل الإعلام الوطنية، ولم تُمنح الجنازة التي تليق بتاريخها ومكانتها في قلوب الناس.
رغم أن صوتها كان حاضرًا في كل بيت تونسي شعبي، إلا أن رحيلها مرّ مرور الكرام في الإعلام المرئي والمسموع، مما أثار موجة من الحزن والغضب بين جمهورها ومحبّي الأغنية الشعبية.
ردود الفعل من الجمهور والمحبين
جاءت ردود الفعل الحقيقية من قلب الأحياء التي كانت تغنّي لها، من نساء بسطاء عرفنها في الأعراس، ومن شباب نشؤوا على أشرطتها، ومن أصوات في المجتمع الثقافي التونسي الشعبي الذين اعتبروا رحيلها خسارة كبيرة.
كتب كثيرون على صفحاتهم الاجتماعية كلمات وداع حزينة، وتداولوا مقاطع من أغانيها تخليدًا لذكراها.
الوسط الفني والنقابي
رغم القيمة الكبيرة لتجربتها، غابت فاطمة بوساحة عن سجلات التكريم الرسمي.
ولم تصدر وزارة الثقافة أو نقابة الفنانين أي بيان واضح يُخلّد سيرتها أو يعتذر عن تجاهلها في حياتها.
وهو ما أعاد الجدل حول التمييز بين الفنانين بحسب شهرتهم وارتباطهم بالدوائر الرسمية، بدلًا من تقييمهم استنادًا إلى تأثيرهم الحقيقي في الناس.
ردّ فعل الوسط الفني
بعض الفنانين الشعبيين الذين عاصروها عبّروا عن أسفهم لما تعرّضت له من تهميش، وتحدثوا عن ظروفها القاسية، وعن عظمة صوتها وتجربتها.
لكن هذه الأصوات بقيت قليلة، مما يزيد من قسوة المفارقة: فنانة شعبية واسعة التأثير، لكنها غابت دون تكريم رسمي يليق بها.
الإرث والتأثير الفني
بصمتها في الأغنية الشعبية النسائية
تُعتبر فاطمة بوساحة من الرائدات في الأغنية النسائية الشعبية.
فقد فتحت الطريق أمام فنانات مثل زينة القصرينية وغيرها.
وقد ساهمت في خلق أسلوب تعبيري خاص، يتجاوز مجرد التسلية، نحو الأغنية المُعبرة، الهادفة، النابعة من الحياة اليومية.
حضورها في الذاكرة الشعبية
ما زالت أغاني فاطمة تردّد في الأعراس والأسواق. والعديد من أغانيها تعاد بصوت فنانات أخريات، دون أن يُنسب الفضل دائمًا إليها.
لكنها رغم ذلك، تبقى في وجدان جمهورها بصوتها الفريد، وصدقها العاطفي، وحضورها الاستثنائي.
فاطمة بوساحة، صوت الحقيقة والبساطة
فاطمة بوساحة كانت أكثر من فنانة.
كانت امرأة من لحم ودم، من قلب الشعب، من حكايا النساء التونسيات اللواتي تغنينّ بالحب رغم المعاناة. كانت تجسيدًا لصوت لا يعرف التصنع، لفن لا يعرف الكذب، ولوجدان لا يمكن تجاهله.
لقد غادرتنا فاطمة جسدًا، لكنها بقيت روحًا في الأغنية الشعبية التونسية، وبصمة في ذاكرة الفن النسائي، وأثرًا حيًّا في كل من استمع إليها ذات يوم، فابتسم، أو بكى، أو تذكّر نفسه.