فايزة المحرصي : صاحبة القلب الكبير والصوت الأصيل.. أطربت التونسيين ورحلت في صمت


في تاريخ الفن التونسي، مرت أسماء كثيرة، لمع بعضها بسرعة ثم خفت، وبعضها الآخر عاش طويلًا دون أن يترك أثرًا يُذكر.
 لكن فايزة المحرصي كانت من القلائل الذين سلكوا طريقًا مختلفًا، طريقًا هادئًا، صعبًا، لكنه ثابت الخطى.
لم تكن من أولئك الذين يلهثون خلف الأضواء أو يتزاحمون على واجهات البرامج والحفلات، بل كانت فنانة من طراز نادر، تشبه الأرض التي أنجبتها : صلبة، صادقة، وعميقة.
لم يكن صوتها مجرد حنجرة تصدح بالألحان، بل كان مرآةً لروحها، يعكس إحساسًا صادقًا خاليًا من التكلّف. 
في زمن بدأت فيه الأغنية تتجه إلى الخفّة والسطحية، تمسكت فايزة المحرسي بالكلمة الراقية واللحن الجاد، واختارت أن تكون فنانة تخاطب الوجدان والعقل معًا، لا مجرد مؤدية تُستهلك بسرعة.
جاءت من خلفية اجتماعية بسيطة، تشبعت بموسيقى الشارع الشعبي وأصوات الراديو القديمة التي كانت تبث الأغاني الطربية لعمالقة الزمن الجميل.
 لم تكن بدايتها مفروشة بالورود، لكنها شقّت طريقها بصبر وشغف وعزيمة هادئة، لتصبح خلال سنوات قليلة صوتًا يحظى بالاحترام من الجمهور والنقاد على حدّ سواء.
ورغم أنها لم تسعَ وراء الانتشار الواسع، إلا أن أغانيها القليلة استطاعت أن تحفر مكانتها في ذاكرة المستمع التونسي والعربي، خصوصًا عشاق الفن الأصيل. 
كانت اختياراتها الفنية دليلًا على وعي عميق برسالة الفنان، ورفضًا قاطعًا للتنازل عن الجودة والذوق، مهما كلّفها ذلك من تضحيات.
وراء الفنانة، كانت تقف إنسانة رقيقة، متواضعة، نادراً ما تحدثت عن نفسها أو حياتها الخاصة.
 عاشت للفن، وغنّت لتونس، وظلت طوال مسيرتها نموذجًا للفنانة التي تجمع بين الحياء والاحتراف، بين البساطة والرقي.
رحلت فايزة المحرسي في صمت، كما عاشت في الظل، دون ضجيج أو بهرجة، لكنها تركت في قلوب محبيها فراغًا لا يملؤه سوى صوتها.
ورغم الغياب الجسدي، فإن فايزة باقية بصوتها، بفنها، بقيمها، وبما زرعته في الأغنية التونسية من صدق وشرف وإبداع.

النشأة والبدايات الأولى

ولدت فايزة المحرسي في 18 فيفيري 1980 وسط عائلة بسيطة ذات جذور شعبية محافظة.
 نشأت في حي متواضع كان مليئًا بالأصوات والموسيقى الشعبية التي كانت تصدح من الراديوهات، ومن الأفراح العائلية والمناسبات الاجتماعية.
 ومنذ طفولتها، كانت تُظهر اهتمامًا غير عادي بالغناء، فكانت تحفظ الأغاني القديمة، وتؤديها بصوت فاجأ كل من سمعها.
كانت فايزة تحب أغاني أم كلثوم ووردة الجزائرية وصليحة، وكانت تسهر على سماع الأغاني الطربية، وتُقلدها بحسّ طفولي عفوي.
 ولأن عائلتها كانت حريصة على التربية والالتزام، فإنها لم تتلقَ دعمًا فوريًا للاحتراف الفني، لكن والدتها لاحظت الموهبة الكبيرة التي تميزت بها ابنتها، وشجعتها لاحقًا على صقلها.
التحقت بمعهد الموسيقى في تونس العاصمة، وهناك تعلمت أصول المقامات والإيقاعات الشرقية، كما بدأت أولى خطواتها في الغناء الجاد من خلال الفرق الموسيقية المدرسية، ثم شاركت في مسابقات إذاعية شبابية، أبرزها برامج «أصوات جديدة» و«فنون».

البدايات الفنية والظهور التدريجي

كانت انطلاقة فايزة المحرسي الحقيقية في أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات، حين بدأت تظهر في برامج إذاعية وتلفزية، وتغني أعمالًا خاصة بها، وبدأت تتعاون مع عدد من كبار الملحنين والشعراء في تونس.

من بين الأسماء التي آمنت بها في بداياتها :

عبد الكريم صحابو : الذي ساعدها في تقديم أولى أغانيها باللهجة التونسية.

أنور المؤدب وسعيد المصري: اللذان أمدّاها بكلمات عميقة ذات طابع وجداني.

خلال تلك الفترة، كانت الساحة الفنية تزخر بأسماء كبيرة، ما جعل من مهمة فنانة صاعدة مهمة شاقة، لكن فايزة المحرسي نجحت في فرض نفسها تدريجيًا بفضل تمسكها بجودة الأغنية، وصوتها المتميز، وحرصها على تقديم ما يليق بالذوق العام.

المسيرة الفنية والأعمال الغنائية

طوال مسيرتها الفنية التي امتدت لأكثر من 30 عامًا، قدمت فايزة المحرسي عددًا من الأغاني التي أصبحت علامات فارقة في رصيد الأغنية التونسية المعاصرة. كانت تتنقل بخفة بين الطرب والوجدانيات، وأحيانًا الأغنية الشعبية الراقية. 
من أشهر أعمالها :
يا ليتني
يا العين دليه
ما ينساكم
غلطة
عويشة
عزيز على أمه
يحسابونا طحنا
صليو على محمد
خويا يا خويا

وقد أبدعت في أداء الأغنية التونسية المعاصرة دون أن تفرط في هويتها. 
لم تندفع نحو الأغاني التجارية السريعة، بل كانت تختار نصوصها وألحانها بعناية، مما جعل أغانيها تُخلّد، حتى بعد وفاتها.

الأسلوب الفني والهوية الغنائية

امتازت فايزة المحرسي بأسلوب غنائي يمزج بين العذوبة والصلابة.
 لم تكن صوتًا عاديًا، بل كان صوتها قادرًا على الوصول إلى أعماق المستمع، لأنها كانت تغني بإحساس عالٍ وصدق كبير.
 لم تركّز على الأداء الخارجي أو الحركات المسرحية، بل على العمق والتأثير.
كما كانت تختار أغانيها بعناية، وتُولي أهمية كبيرة للكلمة والمعنى، ولم تنجرّ أبدًا وراء ما يسمى بـ"الموضة الغنائية" السطحية.
 كانت مخلصة للأغنية الهادفة، وتعتبر أن دور الفنان هو التوجيه والسمو بالذوق العام.

المشاركات في المهرجانات والبرامج

شاركت فايزة المحرسي في عدد من أهم المهرجانات الفنية بتونس، منها :
مهرجان قرطاج الدولي
مهرجان المدينة خلال شهر رمضان
مهرجان الحمامات الدولي
مهرجانات جهوية وثقافية في ولايات مختلفة مثل صفاقس، سوسة، الكاف، بنزرت، والقيروان

كما ظهرت في العديد من البرامج التلفزية مثل:

نغم الأصيل
سهرية على القناة الوطنية
خميسكم فني
حديث الناس وعندي ما نقلك في حلقات خاصة
فكرة سامي الفهري

وكانت هذه البرامج فرصة لجمهورها لاكتشافها بعيدًا عن أضواء الحفلات، حيث كانت تتحدث بتواضع وتحمل رسائل عميقة عن الفن والحياة.

الحياة الشخصية والبعد الإنساني

كانت فايزة المحرسي امرأة بسيطة ومتحفظة، لم تحبذ الحديث عن حياتها الخاصة في الإعلام. 
لم يعرف الجمهور تفاصيل كثيرة عن زواجها أو حياتها العائلية، لكنها كانت دائمًا تشير إلى دور والدتها الكبير في دعمها، وكانت مرتبطة جدًا بها.
كانت تهتم بالحياة الاجتماعية، وتشارك أحيانًا في حملات خيرية وثقافية، وتحضر الأنشطة النسائية خاصة في الأحياء الشعبية، وقد ساعدت في دعم عدد من المواهب الشابة في بداياتهم.

فايزة المحرسي والعمل الخيري والاجتماعي :

رغم أنها لم تكن كثيرة الظهور إعلاميًا، إلا أن فايزة المحرسي كانت حاضرة بقوة في المجال الإنساني والخيري، خصوصًا في جربة، مسقط رأسها.
كانت تشارك في جمع التبرعات لفائدة المرضى والمحتاجين، وتقوم بأنشطة تضامنية داخل جزيرة جربة وخارجها، بعيدًا عن أعين الكاميرات.
أكد العديد من أصدقائها المقربين، خاصة بعد وفاتها، أنها كانت تتبرع بشكل دوري دون إعلان، وتخصص جزءًا من مداخيلها لمساعدة عائلات محدودة الدخل، كما كانت تقيم حفلات خاصة تُوجَّه عائداتها لصالح جمعيات إنسانية محلية، من بينها جمعيات تُعنى بالأطفال المصابين بالسرطان.
وكانت تربطها علاقة وثيقة بأهل حيّها في جربة، حيث لم تقطع صلتها بأصولها رغم انتقالها للإقامة بتونس العاصمة في السنوات الأخيرة من حياتها.

فايزة المحرسي والهوية التونسية :

كانت فايزة المحرسي من الأصوات التي حافظت على الهوية الثقافية التونسية، ورفضت الانخراط في موجة التبسيط الفني السائدة. 
تمسكت بالأغنية التونسية ذات الجذور الشعبية، وكانت تحرص على تقديم لهجات محلية، خاصة لهجة الجنوب، ضمن أعمالها.
ويُحسب لها أنها لم تركض وراء الشهرة العربية رغم قدرتها، بل آثرت البقاء في تونس، وتقديم أغنية محلية ذات طابع أصيل، مما جعلها أقرب إلى الجمهور التونسي العميق، وتحديدًا في الجهات، بعيدًا عن العاصمة فقط.

المرض والمعاناة الصامتة :

في أواخر العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، بدأت فايزة تعاني من مشاكل صحية خطيرة، لم تكشف عنها كثيرًا، لكنها ألمحت في حوارات نادرة إلى صراعها الطويل مع المرض.
 وبحسب مقربين منها، فإنها كانت تعاني من مرض عضال، وقد فضّلت عدم إظهاره للعلن.
كانت تتلقى العلاج بين تونس والخارج، لكنها لم تتوقف عن التواصل مع جمهورها، ولو من بعيد. في السنوات الأخيرة، غابت عن الحفلات والمهرجانات، وهو ما أثار قلق محبيها، قبل أن تتسرب أخبار عن حالتها الصحية الحرجة.

الوفاة والصدمة

توفيت الفنانة فايزة المحرسي يوم 8 ديسمبر 2022، عن عمر يناهز منتصف الخمسينيات. وقد خيم الحزن على الوسط الفني التونسي، وعلى جمهورها العريض، حيث نعوها بكلمات مؤثرة، وأجمعوا على طيبتها ونبلها وفنها الرفيع.
شيّعت في جنازة مهيبة حضرها فنانون ومثقفون وأقارب ومحبون. 
وتم دفنها في أحد مقابر العاصمة، وسط دعوات بالرحمة ومشاعر أسى لا تُوصف.

التأبين الرسمي :

تُوفيت فايزة المحرسي بعد صراع مع المرض إثر سقوط أصابها في الظهر تسبّب في مضاعفات، ودخلت المستشفى العسكري في تونس العاصمة . 
ونعت وزارة الشؤون الثقافية الراحلة بيوم 9 ديسمبر 2022، في بيان رسمي ضمنته إشادة بصوتها التراثي وأثرها الإنساني والثقافي .

الجنازة ومراسم التشييع :

أُقيمت جنازة مهيبة يوم الجمعة 9 ديسمبر 2022، وشاركت فيها أعداد كبيرة من جمهورها وزملاءها الفنانين والإعلاميين، بحضور شعبي حزين يملؤه الدعاء والزغاريد أثناء وداع الجثمان .

الإرث الفني والبصمة الخالدة

رغم أن فايزة المحرسي لم تصدر عشرات الألبومات، إلا أن أغانيها القليلة كانت كافية لتخلّد اسمها في الذاكرة الفنية.
 تركت أثرًا بالغًا في الأغنية التونسية، خصوصًا في الألوان العاطفية والوطنية. 
ولا يزال صوتها يُبثّ إلى اليوم في الإذاعات، ويُستعاد في المناسبات الفنية، كرمز للمرأة الفنانة الجادة الصادقة.
وتُعدّ تجربتها مثالًا يحتذى لفنانة آمنت بأن الفن رسالة قبل أن يكون مهنة، وفضّلت الجودة على الانتشار، والعمق على الشهرة السريعة.

وصيتها ومدافعة الصديقات :

كشفت صديقتها المقربة، ألفة النفزي، خلال حلقة تلفزيونية عن وصية فايزة: أن تُدفن في مقبرة الجلاز بتونس العاصمة يوم جمعة، رفضًا لدفنها في مسقط رأسها بجربة. 
وعبّرت عن استيائها من بعض الأسماء التي لم تقف إلى جانب فايزة أثناء مرضها، بينما أكدت أن نخبة من الفنانين والمقربين مثل حنان الشقراني، حياة جبنون، ألفة بن رمضان، حسين العفريت، شمس الدين باشا، ونجلاء التونسية كانوا بجانبها ماديًا ومعنويًا .

الإحياء الفني والتكريم بعد الوفاة

1 فبراير 2023 : نُظّم حفل تكريمي في جزيرة جربة، بمشاركة مجموعة من الفنانين التونسيين، لإحياء ذكراها وتكريم روحها .
15 يناير 2023 : عقدت أربعينية فايزة في مقر النقابة التونسية للمهن الموسيقية، حيث تم إطلاق اسمها على إحدى قاعات النقابة، تقديرًا لمسيرتها ودورها في دعم الجمعية .

بصمتها في جربة مسقط رأسها :

أُقيمت لوحة جدارية ضخمة في الحي السكني بالمرسى بحومة السوق بجربة، لإحياء ذاكرتهم على واجهة مسكن العائلة. 
رسمتها الفنانة يسرى شوشان بدعم من صديقتها ليليا الطبيب وشقيقتها ريم، تأكيدًا على إرث فايزة الفني والخيري في الجزيرة .

كلمات التأبين والشهادات :

وصفتها الفنانة لطيفة بأنها "أطيب وأجدع وأصدق قلب"، وذكرت أنها كانت "فنانة خلوقة ومحبوبة من كل الناس" .

النجم صابر الرباعي قال:

 "كنت الأخت والصديقة والفنانة القريبة من كل القلوب … طيبة جدًّا وخلوقة" .

قال الفنان شمس الدين باشا عنها :
"فايزة كانت من أكثر الناس نُبلًا، فنانة راقية، لا تبحث عن ضوء، بل تخلق النور حيثما حلّت. لم تكن أنانية، وكانت تساعد كل من حولها في صمت".

ذكرت الفنانة ألفة بن رمضان أنها:
 "إنسانة نادرة... كانت تسأل عن أحوال الجميع، وتتكفّل شخصيًا ببعض الفنانين القدامى المحتاجين. كانت أختًا للجميع".

حنان الشقراني :
 "لم تكن فايزة فنانة فقط، كانت أمًّا للجميع، قلبها كبير، وكان من النادر أن تمرّ مناسبة دون أن تتصل لتطمئن، أو تبعث هدية صغيرة لمن تحب"

فايزة المحرسي لم تكن فقط فنانة، بل كانت ضميرًا فنيًا يعكس نبض تونس وعمقها الثقافي. رحلت مبكرًا، لكنها تركت وراءها إرثًا فنيًا وإنسانيًا لا يُنسى. وفي زمن غلبت فيه السرعة والسطحية، تظلّ فايزة المحرسي شاهدًا على زمن الفن النقي، الصوت الذي صدح من القلب وسكن القلوب.
تعليقات