في سماء الرياضة التونسية، لم تكن الأسماء التي سطعت فيها محصورة فقط في من رفعوا الكؤوس أو لعبوا في أكبر الأندية الأوروبية، بل هناك أيضًا من خلدتهم الذاكرة بسبب إخلاصهم، تواضعهم، وأثرهم الإنساني والرياضي رغم قصر فترة عطائهم.
من بين هؤلاء، يبرز اسم اللاعب الراحل الأسعد الورتاني، الذي وإن لم تكتب له مسيرة طويلة بفعل القدر، فإن بصمته ظلت واضحة، وذكراه لا تزال حية في قلوب محبيه، سواء من جماهير النادي الإفريقي، أو من أبناء جيله من اللاعبين، أو حتى من المتابعين العاديين للكرة التونسية.
الأسعد الورتاني لم يكن نجما جماهيريا صاخبًا أو لاعبا يصنع العناوين يوميًا، لكنه كان لاعبًا مجتهدًا، ملتزمًا، عُرف بالأداء الرجولي في وسط الميدان، وبشخصية رياضية قلّ نظيرها في التواضع والوفاء للنادي.
وقدر هذه الشخصيات أن يكتشف الناس قيمتها الحقيقية حين تفقدها.
توفي الورتاني بشكل مفاجئ، لكنه ترك وراءه قصة تستحق أن تُروى بتفاصيلها، كتعبير عن جيل من اللاعبين الذين أحبوا اللعبة لروحها وليس لبريقها.
النشأة والبدايات : من شغف الحي إلى أسوار النادي الإفريقي
وُلد الأسعد الورتاني يوم 18 أكتوبر 1981 في العاصمة التونسية، وتحديدًا في أحد الأحياء الشعبية التي عُرفت بإنتاجها للمواهب الكروية.
ترعرع في بيئة متواضعة، حيث كانت كرة القدم وسيلة يومية للترفيه، وللتعبير عن الذات، ولربما الأمل الوحيد في مستقبل أفضل.
منذ نعومة أظافره، ظهرت عليه ملامح الموهبة والانضباط، وهو ما جعله محل أنظار المحيطين به.
لم يتأخر كثيرًا في الالتحاق بأكاديمية النادي الإفريقي، وهو أحد أعرق وأكبر الأندية التونسية.
وهناك بدأت رحلته الحقيقية مع كرة القدم.
تمتع بذكاء تكتيكي، وقدرة على قراءة اللعب، ومهارات دفاعية واضحة، جعلته يفرض نفسه في مركز وسط الميدان الدفاعي، رغم وجود العديد من المواهب في نفس المركز.
التألق مع النادي الإفريقي : القلب النابض للوسط
في نهاية التسعينيات وبداية الألفينات، تم تصعيد الأسعد الورتاني إلى الفريق الأول للنادي الإفريقي.
كانت تلك الفترة تعرف منافسة قوية داخل البطولة الوطنية، حيث كان الفريق يضم نجوما كبارًا، وكانت التحديات على أشدها في الدوري المحلي وفي المشاركات القارية.
وسط هذه الظروف، أظهر الأسعد الورتاني شخصية قوية، واستطاع أن يثبت جدارته ضمن التشكيلة الأساسية.
تميز الورتاني بأداء متوازن بين الدفاع والهجوم، وكان لاعبًا تكتيكيًا بامتياز.
لم يكن يسعى إلى الأهداف بقدر ما كان يطمح إلى تحقيق التوازن في وسط الميدان، حيث اشتهر بقدرته على افتكاك الكرة دون ارتكاب أخطاء، وعلى تقديم تمريرات دقيقة لبناء الهجمات.
وقد رآه المدربون "رئة" الفريق، اللاعب الذي لا يتوقف عن الجري والعمل، في الظل أحيانًا، لكن بروح تضاهي أبرز النجوم.
أظهر إخلاصًا كبيرًا للنادي، ولم يكن من النوع الذي يطالب بالرحيل أو يفتعل الأزمات.
بل بقي ملتزمًا بقميص الأحمر والأبيض، وساهم في الحفاظ على استقرار خط وسط الفريق لعدة سنوات، قبل أن يخوض تجربة احترافية خارجية قصيرة.
التجربة الخارجية: محطة الخليج
في إطار طموحه لتوسيع آفاقه وتجربة الاحتراف، خاض الأسعد الورتاني تجربة احترافية قصيرة في نادي الخليج السعودي.
ورغم قصر المدة التي قضاها هناك، إلا أنه ترك انطباعًا إيجابيًا لدى المدربين والمسؤولين والجماهير.
عرف كيف يتأقلم بسرعة مع أجواء مختلفة تمامًا عن الدوري التونسي، وأظهر التزامًا كبيرًا داخل وخارج الميدان.
لكن ظروفًا شخصية وعائلية دفعته إلى اتخاذ قرار العودة إلى تونس، مواصلاً ارتباطه بالنادي الإفريقي، الذي ظل بيته الأول والأخير.
في خدمة المنتخب الوطني : حضور مشرف وإن كان محدودًا
بفضل تميزه مع النادي الإفريقي، نال الأسعد الورتاني شرف تمثيل المنتخب التونسي، سواء في الفئات السنية أو مع المنتخب الأول.
كانت المنافسة في خط الوسط شديدة في تلك المرحلة، بوجود لاعبين مثل رياض الجلاصي، خالد بدرة، وحبيب كمون، لكن ذلك لم يمنعه من خوض عدد من المباريات الدولية، قدم فيها أداءً محترمًا، وأظهر انضباطًا تكتيكيًا عاليًا.
شارك في بعض التربصات والمباريات الودية والرسمية، وأثبت أنه قادر على تمثيل الراية الوطنية بكل فخر، حتى وإن لم يكن دائم الظهور إعلاميًا أو مطلبًا جماهيريًا.
صفاته الشخصية والرياضية : الأخلاق قبل كل شيء
أكثر ما ميّز الأسعد الورتاني كان شخصيته الهادئة والمتزنة.
لم يُعرف يومًا بإثارة المشاكل أو التصريحات الاستفزازية.
كان لاعبًا خلوقًا، يحظى باحترام زملائه ومدربيه وكل من عمل معه.
كثيرون وصفوه بأنه "قائد بصمت"، يقدّم التوجيه والدعم دون ضجيج، ويحمل الفريق في اللحظات الصعبة دون أن ينتظر إشادة أو تصفيق.
على المستوى الرياضي، كان مثالا في الانضباط والاحتراف.
لا يتأخر عن التدريبات، يحترم قرارات المدربين، ويعطي كل ما لديه داخل المستطيل الأخضر.
كانت له نظرة تكتيكية نادرة، حيث يعرف متى يتقدم ومتى يعود، ويوازن بين المهام الدفاعية وصناعة اللعب ببراعة.
الوفاة المفاجئة : صدمة لا تُنسى
في 18 يونيو 2012، وفي لحظة لم يتوقعها أحد، جاء الخبر الصاعق: وفاة الأسعد الورتاني عن عمر لم يتجاوز 30 عامًا.
فارق الحياة أثناء مشاركته في مباراة ودية رمضانية غير رسمية مع أصدقائه، إثر سكتة قلبية مفاجئة.
تركت وفاته صدمة كبيرة في الوسط الرياضي التونسي، وخلفت حزنًا عميقًا في صفوف زملائه، مدربيه، وعائلته الرياضية.
لم يكن يعاني من أمراض معلنة، وكان يستعد للعودة إلى النشاط الرياضي بشكل تدريجي، لكن الأقدار سبقت كل شيء، وكتبت نهاية حزينة لمسيرة واعدة لم تأخذ نصيبها الكامل من التألق.
التكريمات وردود الفعل: وفاء من جماهيره وناديه
جاءت ردود الفعل سريعة وعاطفية عقب وفاته.
النادي الإفريقي أصدر بيانًا رسميًا نعى فيه أحد أبنائه المخلصين، وتم تنظيم جنازة مهيبة شارك فيها عدد كبير من الجماهير والرياضيين والإعلاميين.
كما بادرت عدة أندية بتقديم التعازي، وعبّر عدد من نجوم الكرة التونسية عن تأثرهم الكبير بفقدانه.
وفي السنوات التي تلت رحيله، أقيمت مباريات ودية تخليدًا لروحه، كما أُطلقت مبادرات لتسمية بعض القاعات أو التربصات الشبابية باسمه، تقديرًا لما قدمه للرياضة التونسية رغم قصر المدة.
إرثه ومكانته في الذاكرة الرياضية
رغم مرور أكثر من عقد على وفاته، لا تزال ذكرى الأسعد الورتاني حاضرة.
يتم استحضار اسمه دائمًا عند الحديث عن اللاعبين الذين جسدوا الوفاء والأخلاق الرياضية.
ترك مثالًا يُحتذى به لجيل جديد من اللاعبين، خاصة أولئك الذين لا يبحثون فقط عن الشهرة، بل عن تقديم صورة ناصعة للرياضة.
يمثل الورتاني صورة حقيقية للاعب الذي لم يبحث عن المجد الشخصي، بل عمل من أجل المجموعة، ومن أجل قميصه وجماهيره.
واليوم، صار اسمه مرتبطًا بالقيم التي تفتقدها الملاعب أحيانًا: الصمت في العمل، التفاني، والتواضع.
الجانب الإنساني والاجتماعي: لاعب كان قريبًا من الجميع
بعيدًا عن الأضواء والملاعب، عُرف الأسعد الورتاني بطبعه الاجتماعي القريب من الناس، حيث كان محبوبًا في محيطه، سواء داخل الفريق أو خارجه.
لم يكن يضع مسافة بينه وبين زملائه الأصغر سنًا، بل كان دائمًا متواضعًا، يشاركهم الحديث والنصائح، ويمنحهم من وقته دون كلل أو تردد.
خارج الملاعب، شارك الورتاني في عدد من الأنشطة الاجتماعية والخيرية، خاصة في الأحياء الشعبية بالعاصمة، وكان يتردد على بعض المدارس والجمعيات الشبابية لتحفيز الأطفال والشباب على ممارسة الرياضة. لم تكن هذه المبادرات تُنقل في وسائل الإعلام، لأنه لم يسعَ يومًا للترويج لنفسه، بل كان يعتبر ذلك جزءًا من مسؤوليته كلاعب له مكانة في المجتمع.
علاقته بجماهير النادي الإفريقي : قصة وفاء متبادل
قلائل هم اللاعبون الذين يبقون في ذاكرة الجماهير رغم أنهم لم يكونوا هدافين أو نجومًا من الصف الأول، لكن الأسعد الورتاني كان من هذه الفئة النادرة.
جمهور النادي الإفريقي لم ينسَ وفاءه للنادي، وصموده في وجه العروض الخارجية، وحفاظه على انضباطه رغم التحديات.
كان الورتاني من اللاعبين الذين يلعبون بكل قلبهم في الدربيات الكبرى، وخاصة ضد الترجي الرياضي، وقد شهدت الجماهير له بالروح العالية التي كان يدخل بها كل مواجهة، كأنها معركة شرف، وليس مجرد مباراة في كرة القدم.
وكان دائمًا يحظى بتصفيق خاص عند دخوله أو خروجه من الملعب، حتى لو لم يكن نجم المباراة.
ولم تتأخر الجماهير في رد الجميل له بعد وفاته، حيث عجّت صفحات التواصل الاجتماعي بصوره وعبارات الحزن والوفاء، وتحولت بعض الحسابات إلى فضاءات لتخليد ذكراه، وهو ما يعكس مدى الحب الذي ناله من جمهور النادي العريق.
شهادات زملائه: "كان أخًا قبل أن يكون زميلاً"
بعد رحيله، خرج عدد من زملائه السابقين بتصريحات مؤثرة عن علاقتهم به، وكيف ترك بصمة في حياتهم. اللاعب السابق وسيم عبد الجواد وصفه بأنه "لاعب لا يتكرر... كان أخًا قبل أن يكون زميلاً، يسمع أكثر مما يتكلم، ويشجع الآخرين حتى لو لم يكن يلعب".
أما الحارس الدولي السابق أيمن المثلوثي فقال عنه في إحدى المناسبات: "الأسعد كان نموذجًا يُحتذى به... كنا نرى فيه اللاعب المثالي، الذي لا يشتكي ولا يتذمر، بل يُقاتل بصمت، ويقدم أفضل ما لديه دون أن يطلب شيئًا في المقابل".
مثل هذه الشهادات لا تُمنح لأي لاعب، بل فقط لأولئك الذين عرفوا كيف يكونون بشراً قبل أن يكونوا رياضيين، والورتاني كان من هؤلاء دون شك.
أسرته بعد الرحيل: الحزن المستمر والذكريات الحيّة
بالنسبة لعائلته، كان فقدان الأسعد ضربة قاسية لا تُنسى. فقد كان السند لوالدته، وكان محبًا لأفراد أسرته الصغيرة، وخاصة إخوته.
ذكرت والدته في مقابلة قصيرة بعد وفاته أن آخر ما قاله لها قبل خروجه من المنزل في يوم وفاته هو: "ما تقلقيش، نرجع بعد شوية"، لكنه لم يعد أبدًا...
ولا تزال عائلته تحتفظ بكل ما يتعلق به: قميصه، صوره، ميدالياته، وكلماته المكتوبة بخط يده. وتقول والدته إن هناك أيامًا تمر ولا تزال تسمع صوته في البيت، وكأنه لم يرحل، وهذا دليل على حضور روحه في قلوبهم حتى بعد غيابه الجسدي.
تأثير وفاته على الوسط الرياضي: صدمة صحّت الجميع
جاءت وفاة الأسعد الورتاني لتنبه الوسط الرياضي إلى المخاطر الصحية التي قد تهدد حياة اللاعبين، خاصة في ظل تكرار حوادث السكتات القلبية المفاجئة في الملاعب. فتحت وفاته نقاشًا واسعًا حول مدى نجاعة الفحوص الطبية التي يخضع لها اللاعبون، وضرورة التوعية بالمخاطر القلبية التي قد لا تظهر بسهولة.
كما دفعت الجامعة التونسية لكرة القدم إلى تشديد المراقبة الطبية، وتكثيف الفحوص السنوية، خاصة للاعبين الذين تجاوزوا 28 عامًا، لتفادي تكرار ما حدث للورتاني. وهكذا، فإن رحيله الموجع لم يكن عبثيًا، بل ساهم في دفع الجهات المسؤولة نحو الاهتمام أكثر بصحة الرياضيين.
الأسعد الورتاني في ذاكرة الإعلام الرياضي
حتى بعد مرور سنوات على وفاته، لا يمر شهر رمضان في تونس دون أن تُعرض لقطات أو تقارير قصيرة تستذكر حادثة وفاته، أو تنقل شهادات أصدقائه.
كما يتم أحيانًا بث مقاطع من مباريات قديمة شارك فيها، أو إعادة بث لحظات تكريمه، مع تعليقات مؤثرة من المعلقين الرياضيين الذين رافقوه.
وفي كل مناسبة تتعلق بالنادي الإفريقي، تعود صورته إلى الواجهة، كأحد رموز الوفاء والانضباط. وهذا وحده كفيل بأن يُبقي اسمه حاضرًا في الذاكرة الجماعية للتونسيين.
رمزية الأسعد الورتاني: دروس من حياة قصيرة
الأسعد الورتاني لم يكن بطلًا في الإحصائيات، لكنه كان بطلًا في القيم: الانضباط، التواضع، العطاء، الاحترام، الوفاء.
وهذه الصفات صارت نادرة في زمن كثر فيه السعي وراء المال والشهرة.
لذلك، فإن قصته تستحق أن تُروى، لا فقط لأنها قصة لاعب، بل لأنها قصة إنسان.
الأسعد الورتاني لم يكن لاعبًا عاديًا، كان نجمًا من طراز نادر، ترك الحياة فجأة، لكن ترك أثرًا لا يُنسى.
مثّل ناديه ومنتخبه بكل وفاء، وترك مثالًا في الالتزام داخل الميدان وخارجه. ورغم أن الموت أخذه في عز عطائه، فإن سيرته ظلت تُروى بكل فخر، وذكراه ستبقى مشعّة في قلب كل من أحب كرة القدم بقيمها النبيلة.