عليّة : صوت نسائي لا ينسى في تاريخ الأغنية التونسية


في تاريخ الأغنية التونسية، تقف أسماء قليلة نجحت في تجاوز حدود الزمن والمكان لتتحول إلى رموز فنية خالدة. من بين هذه الأسماء، تبرز الفنانة الراحلة علية، التي لم تكن فقط صوتًا جميلًا يُطرب الأسماع، بل كانت أيضًا مرآة صادقة تعكس وجدان الشعب التونسي، بكل ما يحمله من حب وحنين وألم وأمل. 
لقد استطاعت علية، بموهبتها الفطرية وصوتها القوي وأدائها الصادق، أن تفرض نفسها على ساحة فنية كانت تغلب عليها الأصوات الذكورية، وتُرسي معالم مدرسة غنائية نسائية متجذرة في التراث ومتطلعة نحو التجديد.
وُلدت علية في فترة كانت فيها المرأة تُعاني من القيود الاجتماعية، لكنّها لم تسمح للعوائق أن توقف طموحها. بدأت من الحفلات الصغيرة، وصعدت سلّم الشهرة تدريجيًا، حتى أصبحت من أبرز الأسماء التي أثرت في الأغنية التونسية في القرن العشرين. 
كانت تحترم الفن وتراه رسالة، لذا لم تتنازل عن الجودة ولا عن الانتماء للهوية الموسيقية التونسية.

النشأة والبدايات

وُلدت علية، واسمها الحقيقي بيّة الرحّال، سنة 1936 في أحد أحياء العاصمة التونسية. 
نشأت في أسرة متواضعة، لكنها كانت تتمتع بصوت جميل لاحظه من حولها منذ طفولتها. 
بدأت تغني في الحفلات العائلية والمناسبات الاجتماعية، قبل أن تلتحق بـالمدرسة الرشيدية، وهي المؤسسة العريقة التي خرّجت عمالقة الفن التونسي.
 وهناك، تعلّمت أصول المالوف والمقامات، وأصبحت تمتلك خلفية موسيقية نظرية دعّمت موهبتها الفطرية.

الانطلاقة وتكوين الشخصية الفنية

بدأت علية في الغناء خلال خمسينات القرن العشرين، في وقت كانت فيه الساحة الموسيقية تحت سيطرة الرجال، لكنها شقّت طريقها بصوتها الجهوري وجرأتها الفنية.
 كان صوتها قادرًا على أداء مختلف الألوان: من المالوف، إلى الطرب الشعبي، إلى الأغنية الخفيفة. 
وقد تعاونت مع عدد كبير من الملحنين الكبار، على غرار صالح المهدي والطاهر غرسة وعبد الحميد ساسي، ما منح أغانيها تنوعًا وتوازنًا بين الكلمة واللحن والصوت.

أعمالها الغنائية الخالدة

خلفت علية تراثًا غنيًا من الأغاني التي لا تزال تُذاع وتُردد حتى اليوم، ومن أبرزها :

"يا عاشقين" – من أشهر أغانيها وأكثرها جماهيرية.
"بين تبانة ومفتاح" – مثال على الأغنية الشعبية ذات الإيقاع المميز.
"راني نبكي" – أغنية حزينة تعبّر عن الفقد والحنين.
"قالوا حبيبك مسافر" – تتميز بلحنها العاطفي وأدائها المؤثر.
"أمان أمان" – أغنية تراثية مطعّمة بأسلوب عصري.
"جيتك يا ما" – من الأغاني التي أظهرت قدرتها على الأداء الدرامي.

تميزت أغانيها بالكلمة القريبة من الناس، وبالصدق في التعبير عن المشاعر، ما جعلها تعيش في وجدان الجمهور التونسي.

المدرسة الرشيدية وأثرها في مسيرتها :

أسهم التحاق علية بـالمدرسة الرشيدية في تكوينها الفني المتين، إذ تلقت هناك تدريبًا نظريًا وعمليًا على يد أساتذة كبار، واطلعت على المخزون الموسيقي التونسي والعربي. وقد ساعدها هذا التكوين في فهم الأبعاد المقامية والإيقاعية للأغنية، ما جعل أداءها دقيقًا ومميزًا.

مكانة علية في الأغنية التونسية :

كانت علية من الأصوات القليلة التي تمكّنت من الموازنة بين الأصالة والتجديد. 
لم تنسج فقط على منوال صليحة، بل أضافت لمستها الخاصة، وخلقت طابعًا غنائيًا يحمل بصمتها. 
وقد ساعدها صوتها القوي على أداء الأغاني التي تحمل مضمونًا وجدانيًا أو اجتماعيًا. 
كما كانت من القليلات اللاتي نجحن في نقل الأغنية التونسية إلى جمهور عربي أوسع من خلال مشاركاتها في المهرجانات والسهرات.

دورها في ترسيخ صورة الفنانة التونسية الأصيلة

لم تكن علية فنانة صوت فقط، بل كانت صاحبة موقف ورؤية فنية.
 كانت تحرص على انتقاء كلمات أغانيها، ورفضت مرارًا الانزلاق نحو الأساليب السطحية التي راجت لاحقًا.
 بذلك، كرّست صورة الفنانة التي تحترم جمهورها وفنها، ورفضت التنازل عن مبادئها رغم ما كلّفها ذلك من إقصاء أو تهميش أحيانًا.

علاقتها بالإذاعة والظهور الإعلامي

شكلت الإذاعة التونسية نافذة رئيسية في مسيرة علية، إذ سجّلت فيها أغلب أعمالها، وكانت أغانيها تبث بشكل منتظم في البرامج الموسيقية.
 لكنها، رغم نجاحها، لم تكن من الفنانات الحريصات على الظهور الإعلامي، إذ فضّلت التركيز على صوتها وعلى حضورها في الحفلات المباشرة.

الوفاة والإرث الفني :

توفيت علية سنة 1990، تاركة خلفها أرشيفًا غنيًا من الأغاني، وحبًا كبيرًا في قلوب التونسيين. 
ومع أن بعض أعمالها طواها الإهمال في فترات معينة، إلا أن جيلًا جديدًا من الباحثين والفنانين أعادوا اكتشافها والاحتفاء بها. 
اليوم، تُدرّس بعض أغانيها في معاهد الموسيقى، وتُعد من بين أعمدة الأغنية النسائية التونسية.

علية في الذاكرة الجماعية :

تحوّلت أغاني علية إلى جزء من التراث الشعبي، وتُبث في الأعراس والمناسبات والبرامج الإذاعية. 
وحتى بعد وفاتها، لا يزال صوتها يُثير مشاعر قوية لدى من سمعها في عزّ تألقها، ولدى جيل لم يعش زمنها لكنه وجد في أغانيها صدقًا وعمقًا نادرين.

لقد كانت علية فنانة أصيلة، مثقفة موسيقيًا، واعية بمكانتها، ومخلصة لفنها.
 لم تسعَ وراء الشهرة الزائفة، بل تركت أعمالًا خالدة تتحدث عنها وتؤرخ لمسيرة فنية متميزة. 
ويكفي أن تُذكر علية اليوم كأحد الرموز الكبرى للأغنية التونسية حتى نعرف أنها لم تكن مجرّد صوت عابر، بل ذاكرة فنية وإنسانية ما تزال حية، وتستحق كل التقدير والتكريم.

علية والمرأة في المجتمع التونسي

في وقتٍ كانت فيه المرأة تواجه تحديات اجتماعية وثقافية جسيمة، مثل القيود المفروضة على حرية التعبير والمشاركة في الحياة العامة، ظهرت علية كصوت نسائي قوي ومؤثر. 
لم تكن فقط تغني، بل كانت تُعبّر من خلال فنّها عن طموحات النساء وأحلامهن، وعن آلام الحب والفقد والغربة والحرمان. أصبحت بالنسبة لكثير من النساء صوتًا يُمثلهن في الفضاء العام، وكانت أغانيها تحظى بانتشار واسع بين نساء الأحياء الشعبية، إذ وجدن فيها تعبيرًا صادقًا عن مشاعرهن وهمومهن.

علاقتها بزملائها الفنانين

تميزت علاقة علية مع زملائها الفنانين بالاحترام المتبادل، وخاصة مع الأسماء التي عاصرتها مثل صليحة ونعمة، وإن كان لكل منهن أسلوبها الخاص.
 ورغم وجود منافسة طبيعية، فإن الفنانين والملحنين كانوا يدركون أن صوت علية لا يشبه غيره، وأنه قادر على أداء ألوان موسيقية تحتاج لقوة وتمكن. 
وقد ذكرت بعض المصادر أنها كانت تحظى بتقدير كبير من الموسيقيين الذين رأوا فيها فنانة ملتزمة وصادقة.

الجانب الإنساني في شخصيتها :

عرفت علية بشخصيتها المتواضعة، رغم شهرتها. 
كانت تحب الناس وتعيش قريبة من بيئتها الاجتماعية ولم تنقطع يومًا عن أهلها وجيرانها.
 ساعدت الكثير من الشبان الموهوبين، وقدمت النصح لبعض الفنانين الناشئين، وكانت تعتبر أن الفن رسالة جماعية لا مجال فيها للأنانية.
 كذلك، كانت كثيرة التأثر بالأحزان، وظهر ذلك في أدائها لأغانٍ حزينة مثل "راني نبكي" و"قالوا حبيبك مسافر".

مشاركاتها في المهرجانات والمسارح :

رغم أنها لم تكن تسعى دائمًا وراء الأضواء، فقد شاركت علية في عدد من أهم المهرجانات التونسية، مثل مهرجان قرطاج ومهرجان المدينة، وقد لقيت حفلاتها إقبالًا واسعًا، خاصة لدى الجمهور الشعبي.
 كان حضورها المسرحي قويًا، وغالبًا ما تفاعلت مع الجمهور بشكل عفوي، مما أضفى على حفلاتها طابعًا حميميًا خاصًا.

الفرق بينها وبين صليحة ونعمة :

يضع كثير من النقّاد علية ضمن "الثالوث النسائي" الذي شكّل العمود الفقري للأغنية النسائية التونسية في القرن العشرين: صليحة، علية، ونعمة.
كانت صليحة صوت الريف والفطرة، وتميّزت بجمال الأداء العاطفي البدوي.
أما نعمة فتميّزت بأسلوبها العصري وانفتاحها على التجديد.
بينما برزت علية كجسر بين الأصالة الشعبية وبين الأداء الفني المدروس، حيث جمعت بين الحس الشعبي والاحتراف الأكاديمي.

إرثها الثقافي وأهمية توثيقه

رغم أهمية ما قدّمته، لا تزال أعمال علية تحتاج إلى مزيد من التوثيق والأرشفة. 
كثير من تسجيلاتها موجودة في الإذاعة، لكن أغلبها لم يُرقمن بعد أو يُعاد تقديمه بجودة حديثة.
 هناك حاجة إلى مشروع وطني يُعنى بإحياء تراثها وتقديمه للأجيال الجديدة، سواء من خلال إعادة توزيع أغانيها أو إصدار كتابات نقدية عنها، أو إدماج أعمالها في المناهج التعليمية الموسيقية.

مقترح لإعادة إحياء فنّها

يقترح بعض المختصين في الموسيقى أن يتم إنتاج ألبوم تكريمي لأغاني علية بصوت فنانين شبّان، أو تنظيم سهرة كبرى في مهرجان قرطاج مخصصة لأعمالها، تُؤدى فيها أجمل أغانيها بتوزيعات معاصرة تحترم الأصل وتحاكي العصر، حتى تتعرّف الأجيال الجديدة على هذه الفنانة الكبيرة التي تستحق أن تبقى حاضرة في المشهد الثقافي.
تعليقات