وسط زحمة الوجوه التلفزيونية وتهافت بعض النجوم على الأضواء، يبرز الحبيب بن ذياب كاستثناءٍ جميل في المشهد الفني التونسي.
ممثل لا يتصدر "الترند"، ولا يثير الجدل على المنصات، لكنه حاضرٌ بقوة في ذاكرة المسرح، ومتماسك في حضور تلفزيوني وازن، صقلته التجربة، وزيّنه الصمت، وزاده التواضع ألقًا.
بين البدايات... والمسرح الكبير
بدأت رحلة الحبيب بن ذياب من الركح، لا من الكاميرا.
لم تكن طريقه مفروشة بالأضواء، بل بالخشبة التي تصقُل وتُربّي.
نشأ في بيئة شعبية بسيطة، ووجد في المسرح منبرًا للتعبير عن الهواجس اليومية ومكانًا لقول ما لا يُقال. التحق بالمعهد العالي للفن المسرحي، وتتلمذ على يد عمالقة مثل المنصف السويسي ورجاء بن عمار.
لم يكن تلميذًا عاديًا، بل فنانًا في طور التكوين، حريصًا على الغوص في أبعاد الشخصية لا حفظ النص فقط.
وقد تميّزت انطلاقته بالتزامه بمسرح يحمل قضية، لا يركن إلى الترفيه السطحي.
شارك في أعمال مسرحية تركت بصمتها، مثل "مرحبًا بك سيدي الرئيس" و*"غسالة النوادر"* و*"الفجر الجديد"*، متقمصًا أدوار المواطن التونسي المغلوب على أمره، أو المثقف المحاصر بأسئلة الواقع.
حضور تلفزيوني راسخ... دون صخب
لم يكن الحبيب بن ذياب من الممثلين الذين يقتحمون الشاشة من بوابة البطولة المطلقة، لكنه كان حاضرًا في التلفزيون بحسٍّ مسرحي عالٍ، وبأداء يُراكم التجربة والصدق.
بدأت رحلته التلفزيونية في التسعينات، حيث تألق في مسلسل "ضيعة محروس" سنة 1995، مؤديًا شخصية "محروس" التي التصقت باسمه وجعلته من الوجوه المحبوبة لدى الجمهور التونسي، خاصة في المناطق الريفية والشعبية، لما حملته الشخصية من عمق إنساني وعفوية محبّبة.
تواصل حضوره في أعمال درامية متنوعة منها "أمواج" (1994) الذي كان من أوائل المسلسلات التي رسخت اسمه، ثم شارك في أعمال أخرى مثل "غالية" (1999)، و**"ضفائر"** (2001)، و**"عطر الغضب"** (2002)، حيث أبدع في تقديم شخصيات مختلفة عكست تعدد أدواته كممثل.
أما في مسلسل "المتحدي" (1997) فقد أدى دورًا دراميًا مميزًا، فيما قدم شخصيتين مختلفتين هما "الخميسي" و"العيدودي" في مسلسل "حسابات وعقابات" (2004)، مما أبرز قدرته على تقمص شخصيات متباينة نفسياً وسلوكياً.
كما شارك في سلسلة "مخبر الأستاذ حكيم" بدور "مروان"، وهو عمل تلفزيوني جمع بين الطابع البوليسي والتربوي، نال فيه إعجاب النقّاد على الرغم من محدودية انتشاره جماهيريًا.
ورغم غيابه عن بعض الأعمال التي كانت تحظى بشهرة أوسع، فإن حضوره ظلّ ثابتًا، ومبنيًا على الجودة لا الكمية، وعلى الأداء لا الضجيج.
لقد كان ممثلًا تلفزيونيًا من طراز نادر، يجعل من كل مشهد يشارك فيه لحظة تستحق التقدير.
السينما... حضور نادر لكنه راسخ
لم تُغره أضواء السينما كثيرًا، لكنه حين شارك، ترك الأثر. في صمت القصور وريح السد وعرايس الطين، كان الحبيب بن ذياب نموذجًا للممثل الذي لا يحتاج مساحة طويلة كي يترك انطباعًا كبيرًا.
أدواره السينمائية كانت محدودة لكنها محمّلة بالمعاني، ومرتبطة بمخرجين كبار آمنوا بموهبته، وبأنه إضافة لا مجرد ممثل تكميلي.
الإذاعة: المسرح الصوتي الذي أتقنه
ربما لا يعرف البعض أن الحبيب بن ذياب هو أحد أعمدة المسرح الإذاعي في تونس.
لعقود، كان صوته يملأ أثير الإذاعة الوطنية، وخاصة في المسلسلات الرمضانية والمساحات الدرامية.
بصوته وحده، كان يروي، ويُقلق، ويُضحك، ويُبكي.
وقد اعتبره كثير من المخرجين الإذاعيين من أفضل من أدى الشخصيات الصوتية ذات الطابع الشعبي والفلسفي معًا.
ممثل بوجه إنساني وثقافي
بعيدًا عن الكاميرا، عُرف الحبيب بن ذياب بانخراطه في النشاط الثقافي الجهوي.
شارك في الورشات المسرحية، درّب الهواة، أشرف على أعمال مدرسية، وساهم في إثراء المهرجانات في الجهات الداخلية.
لم يكن نجم العاصمة الذي يزور البقاع الداخلية موسمياً، بل فنانًا يعتبر أن الفن الحقيقي لا يُخلق إلا في تفاعل مباشر مع الناس.
وقد عبّر في أكثر من مناسبة عن رفضه لـ"نجومية المناسبات"، مؤكدًا أن "الفن مسؤولية أخلاقية قبل أن يكون وسيلة للشهرة أو المال".
شهادات في حقّه
"هو ممثل يشتغل على الشخصية حتى في صمته... لا يصرخ كي يسمع، بل يصمت كي يُفكَّر فيه."
توفيق الجبالي، مخرج ومسرحي
"من القلائل الذين لم تغيّرهم الكاميرا. ظلّ ابن المسرح حتى عندما دخل التلفزيون."
رجاء بن عمار، مخرجة مسرحية
"نتعلم منه ضبط النفس، وفهم النفس."
أمين بن سعيد، ممثل شاب
الأسلوب : بُعد داخلي لا استعراض خارجي
لا يملك الحبيب بن ذياب أدوات استعراضية، لكنه يملك ما هو أعمق : فهم الشخصية.
أسلوبه في التمثيل لا يعتمد على المبالغة أو الافتعال، بل على صدق النظرة، وحجم الصمت، وانسيابية الجسد. أدواره تشبهه: هادئة، عميقة، غير متكلّفة.
هو من الممثلين القادرين على تحويل مشهد بسيط إلى لحظة لا تُنسى.
لماذا لم يُكرَّم كما يجب؟
برحيل الممثل الحبيب بن ذياب، طُرح سؤال موجع في الأوساط الفنية والإعلامية: لماذا لم يُكرَّم كما يستحق؟ رغم مسيرته الطويلة، وإسهاماته المميزة في المسرح والتلفزيون، غادر هذا الفنان الحياة بهدوء يشبه صمته حين كان يُقصى عن التكريمات والاحتفاءات الرسمية.
لم يكن الحبيب من أولئك الذين يطرقون الأبواب أو يسعون خلف الأضواء، لكنه كان من الفنانين الذين منحوا الكثير للفن التونسي دون مقابل، فكان جزاؤه التجاهل في حياته، والغياب الصاخب في رحيله.
إن غياب التكريم ليس فقط تقصيرًا في حق فنان، بل هو مؤشّر على خلل أعمق في كيفية تعامل الساحة الثقافية مع رموزها، خاصة أولئك الذين لا يجيدون تسويق أنفسهم، لكنهم يجيدون الوقوف على الخشبة أو أمام الكاميرا بشرف، وإبداع، ونُبل.
ممثل من الطراز القديم... حين كان الفن موقفًا
ينتمي الحبيب بن ذياب إلى جيل من الفنانين الذين لم يروا في التمثيل مجرد وسيلة للشهرة أو الظهور، بل اعتبروه رسالة وموقفًا أخلاقيًا وثقافيًا.
هذا الفنان، الذي صعد على ركح المسرح ووقف أمام كاميرات التلفزيون دون بهرجة أو ادعاء، جسّد صورة الممثل المثقف، المتواضع، الملتصق بالناس، وبتفاصيلهم اليومية.
لم يكن من هواة المنابر الإعلامية، لكنه كان يختار أدواره بدقة، ويؤديها بروح من يقدّم شيئًا أعمق من الترفيه: وجع الإنسان البسيط، ونبض الواقع التونسي.
خلف الكاميرا... رجل بسيط ونبيل
بعيدًا عن الأضواء، كان الحبيب بن ذياب شخصية محبوبة لدى زملائه، يشهد له الجميع بالأخلاق العالية والتواضع والالتزام المهني.
لم يكن صداميًا ولا صاخبًا، لكنه كان فاعلًا بصمته، مؤثرًا بحضوره الإنساني قبل الفني.
عُرف بابتسامته الهادئة، وميله إلى الحوار البنّاء بدل الصراع، وبكونه سندًا للفنانين الشباب، يشجعهم ويوجههم من خلف الكواليس دون أن يتصدر المشهد.
عزلة السنوات الأخيرة... والفن الذي لا ينسى
في سنواته الأخيرة، بدا وكأن الساحة الثقافية نسيت أحد أعمدتها.
لم يعد الحبيب بن ذياب حاضرًا في الأعمال الجديدة، ولا على الشاشات أو في المهرجانات.
تلك العزلة لم تكن اختيارًا بقدر ما كانت نتيجة نظام فني يستبدل الوجوه بدل أن يُثمّن الخبرة.
لكنه رغم ذلك، ظلّ حريصًا على الفن، يزور بعض العروض المسرحية، ويشارك بصوته ومواقفه في النقاشات الثقافية متى دُعي.
بعد الرحيل... رسائل حب متأخرة
عقب إعلان وفاته، امتلأت منصات التواصل الاجتماعي برسائل نعي حزينة من زملائه وجمهوره.
تذكّره الجميع فجأة، وتحدثوا عن إنسانيته، وموهبته، ومواقفه.
لكن السؤال ظلّ معلقًا: لماذا لا نتذكّر فنانينا إلا بعد أن يغيبوا؟ لماذا لا نمنحهم في حياتهم ما يستحقونه من تقدير واعتراف؟ لقد رحل الحبيب بن ذياب، لكن بصمته باقية، وذكراه ستظل عنوانًا لفنان حقيقي، لم يتاجر بفنه، بل عاش له ومات وفيًا له.
فنان يليق بنا أن نحفظه
الحبيب بن ذياب هو الممثل الذي لا يُغريك بمظهره، بل يقنعك بموهبته.
هو فنان البُعد الثاني، البُعد الصادق، البعيد عن التصنّع. هو درسٌ في الصمت حين يصبح الصمت فنًّا، وفي الحضور حين لا تحتاج إلى صراخ كي تُرى.
مثله لا يرحل، لأن أثره في المشهد الفني أعمق من أن يُمحى، وأصدق من أن يُزيّف.