الهادي حبوبة : أسطورة المزود التونسي و50 سنة من النغمة الشعبية


يُعتبر الهادي حبوبة من أبرز الوجوه الفنية في تونس، وصاحب بصمة لا تُنسى في تطوير ونشر لون المزود الشعبي، وهو نمط موسيقي تونسي شعبي يرتكز على الإيقاع والغناء الذي يعبر عن وجدان الناس وتاريخهم. جمع حبوبة بين الأصالة الموسيقية الشعبية وروح الحداثة في الأداء، فأصبح أيقونة فنية متفردة تتجاوز الأجيال.

النشأة والبدايات :

وُلد الهادي حبوبة في قلب العاصمة تونس سنة 1948، وتحديدًا في أحد أحياء المدينة العتيقة.
 نشأ وسط بيئة شعبية غنية بالتراث الموسيقي، فكان محاطًا بالأهازيج، والطبوع، والأصوات الصادحة من المقاهي والمناسبات. 
بدأت علاقته بالموسيقى مبكرًا، حيث تأثر بشكل خاص بإيقاعات الطبل والدربوكة والمزمار، وهي آلات تشكل العمود الفقري للمزود.

من الطبّال إلى نجم الشاشات :

بدأ حبوبة مسيرته كطبّال (عازف على آلة الدربوكة)، وشارك في العديد من الفرق الشعبية التي كانت ترافق الأفراح والمناسبات العائلية. 
لكن سرعان ما اكتشف موهبته في الغناء، فانتقل تدريجيًا من مجرد عازف إلى مغنٍّ شعبي. 
كان لصوته القوي والحماسي، وقدرته على إشعال الجمهور، دور كبير في بروز اسمه في الساحة.
في سبعينيات القرن العشرين، كانت انطلاقته الحقيقية، حيث بدأ يؤدي أغانيه الخاصة بمرافقة فرقته الموسيقية. وقد ساهمت شخصيته الكاريزماتية على المسرح، وحضوره الطاغي، في ترسيخ اسمه لدى الجماهير، خاصة في الأحياء الشعبية والأسواق والمهرجانات.

أسلوبه الفني :

يمتاز أسلوب الهادي حبوبة بالمزج بين الإيقاع الشعبي التونسي وبين كلمات تحاكي الحياة اليومية للناس، بما فيها من فرح، حزن، حب، غدر، وحنين.
 تعتمد أغانيه على إيقاع المزود القوي الذي يجعل الجمهور يتفاعل جسديًا، سواء بالرقص أو التصفيق أو الغناء الجماعي.
كما أن حبوبة طوّر العرض المسرحي للغناء الشعبي، حيث أدخل الرقص والحركات المسرحية، وجعل من حفلاته فضاءً للتفاعل الحي، مما ساعد على وصول فنه إلى فئات جديدة من الجمهور، وليس فقط أبناء الأحياء الشعبية.

أبرز أغانيه وأعماله :

لم يعد الهادي حبوبة بعد نجاح أولى أغانيه يقتصر على أغاني التراث بل انطلق في تسجيل أغانيه الخاصة متعاملا مع بعض الشعراء مثل الشاعر الشعبي الخويني وغيره من الشعراء الشبان مساهما في تطوير الأغنية الشعبية، حيث اعتمد اللهجة المحلية والمواضيع التي تمزج بين الحزن والشوق والمأساة على غرار «يا لميمة»، «ليلة والمزود خدّام»، «عويشة»، «راني مُضام»، «ناري على الزينة»، وغيرها.
كما أصدر العديد من الألبومات التي حافظت على نفس الروح، مع تطور في التوزيع الموسيقي، دون أن يفقد هويته الشعبية.

حضوره في الإعلام والمهرجانات :

شارك الهادي حبوبة في عدة مهرجانات كبرى في تونس، مثل مهرجان قرطاج الدولي، مهرجان بنزرت، ومهرجان صفاقس، حيث كان يملأ المدارج بالجماهير المتعطشة لفنه. 
كما كان له حضور مستمر في التلفزيون والإذاعة، خاصة في البرامج التي تهتم بالتراث الشعبي.

علاقته بالجمهور :

تميّز الهادي حبوبة بعلاقة خاصة واستثنائية مع جمهوره، حيث كان يرى نفسه واحدًا منهم، يتحدث لغتهم، ويعبّر عن همومهم وأفراحهم. 
حفلاته تتسم بأجواء حماسية، فيها تفاعل مباشر، فهو لم يكن يغني فقط بل كان يرقص، يمازح، ويخاطب جمهوره مباشرة، ما خلق نوعًا من الألفة قلّ نظيرها بين فنان وجمهوره في تونس.
 وقد عبّر في أكثر من لقاء عن امتنانه للجمهور الذي ساند فنه منذ بداياته البسيطة.

تطوير المزود وتحديثه :

رغم التزامه بالجذور الشعبية لفن المزود، إلا أن الهادي حبوبة لم يتوقف عند القوالب التقليدية.
 لقد عمل على تحديث الإيقاع وتطوير أسلوب التوزيع الموسيقي في أغانيه، دون أن يُفرّط في الهوية الأصلية. أدخل آلات غربية مثل الأورغ والبيز إلى جانب الطبل والدربوكة، كما اعتمد على فرق موسيقية منظمة بدل العروض الارتجالية، مما ساهم في الارتقاء بفن المزود ليصبح قابلًا للعرض في أكبر المسارح.

الإقصاء من المشهد الإعلامي :

رغم جماهيريته الواسعة، تعرض حبوبة خلال مراحل معينة من مسيرته إلى نوع من التهميش الإعلامي، خاصة في فترات كانت فيها مؤسسات الإعلام الرسمي تميل لتفضيل الأنماط الكلاسيكية أو الفرانكوفونية. 
ومع ذلك، بقي نجمًا ساطعًا في الشارع الشعبي، ونجحت أغانيه في الوصول إلى الجمهور من خلال الأعراس، الأسواق، محطات التاكسي الجماعي، وحتى الهواتف النقالة، مما جعله واحدًا من أكثر الفنانين تداولًا على مستوى السمع الجماهيري.

الجانب الإنساني في شخصيته :

عرف عن حبوبة تواضعه الشديد وقربه من الناس، فقد بقي وفيًا لأصوله ولم تغيره الشهرة.
 شارك في العديد من المناسبات الخيرية، وساهم في إدخال البهجة على وجوه الفئات المهمّشة من خلال عروض في الأحياء الشعبية أو السجون أو دور المسنين. هذا الجانب جعله يُحترم كإنسان قبل أن يُحتفى به كفنان.

شهادات من فنانين آخرين :

أشاد العديد من الفنانين التونسيين والعرب بالهادي حبوبة، من بينهم فنان الراي الجزائري الشاب خالد، الذي عبّر عن إعجابه بالإيقاع التونسي، خاصة كما يقدّمه حبوبة. 
كذلك اعتبره الفنانون الشعبيون في تونس "مدرسة المزود" و"الرقم الصعب" الذي لا يمكن تجاوزه. 
حتى بعض الفنانين الشباب الذين اختاروا أنماطًا مختلفة تأثروا بروحه الإيقاعية وأسلوبه المسرحي.

الجدل والمواقف :

لم تخلُ مسيرة حبوبة من الجدل، خاصة أن فنه غالبًا ما يُصنَّف ضمن "الأغاني الشعبية" التي اعتبرها البعض غير راقية، رغم أنها تعبّر بصدق عن هوية المجتمع التونسي. ومع ذلك، دافع حبوبة دومًا عن فنه، مؤكدًا أنه ابن بيئته، وأنه يحمل رسالة الفن الشعبي الذي يجب أن يُحترم ويُحتفى به.
ويُعتبر حبوبة من الروّاد الذين ساهموا في إعادة الاعتبار للموسيقى الشعبية التونسية، وخصوصًا المزود، الذي أصبح لاحقًا نمطًا فنيًا يجذب الشباب والفنانين الجدد. تأثر به العديد من الفنانين مثل وليد التونسي، نور شيبة، وشكري بوزيان.
كما أن أداءه الحي والطاقة التي يبثها في الحفلات أصبحت معيارًا لكل من يريد أن يقدم فنًا تواصليًا وشعبيًا. أثره يتجاوز الفن إلى الثقافة الشعبية، حيث أصبحت بعض عباراته من الأغاني تُردد في الحياة اليومية.

حياته الشخصية : فنان من قلب الشعب

بعيدًا عن الأضواء، عرف الهادي حبوبة بحياة بسيطة، متواضعة، تعكس انتماءه الطبقي والاجتماعي.
 لم ينقطع يومًا عن أصدقائه القدامى من الأحياء الشعبية، وظل وفيًا لعاداته وتقاليده. 
لم يكن ممن يلاحقون الأضواء أو يتهافتون على الظهور الإعلامي، بل كان يختار الوقت والمكان المناسبين للتحدث، وغالبًا ما عبّر عن حنينه لأيام البساطة، حيث كانت الكلمة الصادقة أهم من الصورة والبريق.
 وقد ذكر في أكثر من مناسبة أن عائلته كانت دائمًا سندًا له، ودافعًا لمواصلة مشواره رغم الصعوبات.

في السنوات الأخيرة :

رغم تقدمه في السن، ظل الهادي حبوبة يشارك من حين لآخر في حفلات ومهرجانات، وإن كان ظهوره الإعلامي قد خفّ مقارنةً بالسنوات الذهبية لمسيرته.
 إلا أن حضوره لا يزال قويًا في الذاكرة الجمعية، حيث يُنظر إليه كرمز من رموز الثقافة الشعبية.
الهادي حبوبة ليس مجرد فنان شعبي، بل هو رمز من رموز الهوية الثقافية التونسية. 
مزج بين الطبل والكلمة، بين الإيقاع والحكاية، وبين المسرح والغناء، فخلق فنًّا خاصًا به، لا يُشبه أحدًا ولا يشبهه أحد. هو فنان الناس، وصوتهم، وإيقاعهم الراقص وسط صخب الحياة.

الهادي حبوبة.. من صوت الحي إلى ذاكرة الوطن

الهادي حبوبة ليس مجرد مغنٍ شعبي، بل هو صوتُ حيٍّ يعكس نبض الشارع التونسي، وذاكرة موسيقية لا تنسى. استطاع أن يحوّل المزود من مجرد فنّ شعبي يُقدَّم في المناسبات، إلى مدرسة فنية قائمة بذاتها، تستقطب الأجيال وتلهم الفنانين.
 واليوم، حتى وإن ابتعد قليلاً عن الساحة، فإن تأثيره حاضر بقوة، وأغانيه لا تزال تُشغَّل في البيوت، والحفلات، والسيارات، وتُنشد في أعراس الفرح الشعبي، كما تُستعاد في لحظات الحنين.
هو فنان حمل الطبل والكلمة، وركض بالإيقاع نحو قلوب الناس، فأحبوه، ورددوا أغانيه، وجعلوا منه أحد أعمدة المزود التونسي.
تعليقات