حاتم بالرابح : فنان مميّز رحل في صمت وبقي في الذاكرة


في ذاكرة الفن التونسي، تظل بعض الأسماء راسخة لا تمحوها السنين، لأن أصحابها لم يكونوا مجرّد ممثلين ظهروا على الشاشة أو اعتلوا خشبة المسرح، بل كانوا وجوهًا شكّلت الوجدان الجمعي لجيل بأكمله، وصوتًا فنيًا ناطقًا بقضايا الناس، بأحلامهم وانكساراتهم.
ومن بين هؤلاء، يبرز اسم حاتم بالرابح، الممثل الذي عاش للفن، وعانى في صمت، ورحل فجأة، لكنه لم يغب عن القلوب ولا عن سجلّ الذاكرة الإبداعية في تونس.
ولد حاتم بالرابح في زمنٍ كانت فيه الساحة الثقافية التونسية تبحث عن تجديد وتمايز، وجاء هو ليكون أحد أبنائها البررة، الذين خاضوا تجربة الفن بأشكاله المختلفة، من المسرح إلى السينما إلى الدراما التلفزيونية.
امتلك موهبة فريدة وصوتًا داخليًا يُلزمك بالإنصات، وملامحَ تحمل الكثير من القصص.
لم يكن نجوميًا بالمعنى السطحي، بل كان فنانًا حقيقيًا، اختار طريق الشغف لا طريق الأضواء.
عرفه الجمهور التونسي بشكل خاص من خلال أدوارٍ ظلّت محفورة في الأذهان، أبرزها شخصية "إلياس" في المسلسل الشهير الخطاب على الباب، التي منحته محبة واسعة ونقلته من خانة الممثل الموهوب إلى خانة الممثل الذي يُنتظر ظهوره ويُصغى إلى أدائه.
لكنه، رغم نجاحاته، لم يركض وراء الكاميرا، بل ظلّ وفيًا للمسرح، للفكر، ولذاته المتأملة في الفن والحياة.
سافر حاتم بالرابح إلى الخارج، درس المسرح، درّسه، وعاد إلى تونس في فترات متفاوتة، لكنه بقي مخلصًا لصوته الداخلي الذي يدفعه نحو العمق.
لم يكن كثير الظهور، لكن ظهوره كان دائمًا يحمل قيمة.
لم يكن ممثلًا استهلاكيًا، بل فنانًا عضويًا في كل ما قدمه. وفي لحظة حزينة من نوفمبر 2018، خيم الحزن على الوسط الفني التونسي والعربي، برحيل هذا الفنان الخلوق، الذي خطف الموت صوته قبل أن يفرغ كل ما في جعبته من فن وصدق.

النشأة والبدايات :

وُلد حاتم بالرابح في 8 جانفي 1971 في تونس العاصمة. منذ شبابه، أبدى اهتمامًا بالفنون المسرحية، ما دفعه إلى دراسة المسرح والتعمق في تقنيات الأداء. 
سافر لاحقًا إلى اليونان حيث استقر لفترة واشتغل كأستاذ مسرح، قبل أن يتعرض لحادث مرور خطير كاد يودي بحياته، مما اضطره للعودة إلى تونس للعلاج واستئناف مسيرته الفنية.

المسيرة التلفزيونية

رغم ظهوره غير المنتظم على الشاشة، إلا أن حاتم بالرابح ترك بصمة واضحة في الدراما التونسية. 
من أبرز أدواره :
إلياس في مسلسل الخطاب على الباب: دور كوميدي اجتماعي لاقى استحسانًا واسعًا من الجمهور، وأصبح علامة فارقة في مسيرته.
حسين في الأيام كيف الريح : دور درامي عميق أظهر قدراته التمثيلية العالية.
شارك أيضًا في مسلسلات أخرى مثل يا زهرة في خيالي، من أيام مليحة، حكم الأيام، وولد الناس.

الحضور السينمائي :

أثرى بالرابح السينما التونسية بعدة أعمال مميزة، منها:
صيف حلق الوادي للمخرج فريد بوغدير.
صمت القصور للمخرجة مفيدة التلاتلي.
رقصة الريح للمخرج الطيب الوحيشي.
المتشابهون للمخرج الحبيب المستيري.

تميزت مشاركاته السينمائية بقدرته على تجسيد شخصيات معقدة ومركبة، مما أضفى عمقًا على الأعمال التي شارك فيها.

المسرح: الجذور والهوية

كان للمسرح مكانة خاصة في قلب حاتم بالرابح. شارك في عدة أعمال مسرحية بارزة، منها:
عيشو شكسبير مع المخرج محمد إدريس.
سمفونية للمخرج الحبيب شبيل.
صباط الظلام مع المخرج محسن بن نفيسة.
يا بحر قلي مع المخرج الطيب السهيلي.
عرف عنه التزامه العميق بالمسرح، حيث كان يرى فيه وسيلة للتعبير عن قضايا المجتمع والتفاعل مع الجمهور بشكل مباشر.

الحياة الشخصية والرحيل المفاجئ

في السنوات الأخيرة من حياته، عاش بالرابح فترة في أوروبا، خاصة في اليونان، حيث تأثر بالحضارة الإغريقية.
 عاد إلى تونس بعد تعرضه لحادث مرور خطير.
 توفي في 16 نوفمبر 2018 عن عمر ناهز 47 عامًا، إثر تعكر صحته بشكل مفاجئ، بالتزامن مع انعقاد الدورة التاسعة والعشرين من مهرجان أيام قرطاج السينمائية.

الإرث الفني والتأثير

يُعتبر حاتم بالرابح من الممثلين التونسيين القلائل الذين أتقنوا تجسيد الشخصيات المركبة والمعقدة، مما جعله يحظى بتقدير واسع من قبل الجمهور والنقاد. 
ترك إرثًا فنيًا غنيًا في مجالات المسرح، التلفزيون، والسينما، وسيظل اسمه محفورًا في ذاكرة الفن التونسي.

حاتم بالرابح : الفنان المثقف والباحث عن المعنى

لم يكن حاتم بالرابح فنانًا عاديًا ينشد الشهرة أو يسعى للظهور المستمر في وسائل الإعلام، بل كان مثقفًا حقيقيًا، قارئًا نهمًا للفكر والفلسفة والأدب، يبحث دائمًا عن العمق في كل ما يقدمه.
 كان يختار أدواره بعناية، ويرفض الانخراط في الأعمال السطحية أو التجارية، حتى لو أدى ذلك إلى ابتعاده المؤقت عن الساحة الفنية.
تميز بعقليته النقدية، وكان يُعرف بمناقشاته الجادة مع زملائه حول دور الفن في التغيير الاجتماعي، وأهمية أن يكون الممثل حاملًا لرسالة ووعي. لذلك، لم يكن من الغريب أن يصفه بعض النقاد بأنه "فنان مثقف قبل أن يكون ممثلًا".

علاقته بالجمهور : الغياب الذي لم يُنسِ الحضور

رغم قلّة ظهوره في السنوات الأخيرة قبل وفاته، ظلّ اسم حاتم بالرابح حاضرًا في وجدان الجمهور التونسي. كان لأدواره وقع خاص، فقد امتلك موهبة جعلت المشاهد يتعلّق بشخصياته، ويشعر بها وكأنها جزء من حياته اليومية.
كان حضوره قويًا رغم اختفائه الطويل عن الشاشات، وهو ما يعكس عمق الأثر الذي تركه.
 كثيرون ممن تابعوا "الخطاب على الباب" أو "الأيام كيف الريح" ما زالوا يتذكرون أداءه المتقن وتعابيره الصادقة، وهو ما لم يقدر الزمن على محوه.

بين الفن والواقع

عاش حاتم بالرابح حياة لم تخلُ من التحديات.
 فقد مرّ بظروف صحية صعبة، خاصة بعد حادث المرور الذي تعرض له في اليونان، والذي أثّر على مساره المهني والإنساني.
 كما عانى مثل كثير من الفنانين التونسيين من تهميش مؤسساتي وإهمال رسمي، حيث لم يلقَ الدعم الذي يستحقه رغم موهبته وتميّزه.
كان يُعرف عنه التواضع والصدق، وكان قريبًا من زملائه ومن الناس البسطاء. 
لم ينسَ أصوله الشعبية، وبقي متصلًا بقضايا مجتمعه، ما جعله محبوبًا حتى خارج الإطار الفني.

تكريم بعد الرحيل

لم ينل حاتم بالرابح في حياته ما يليق بمقامه الفني من تكريم رسمي أو إعلامي.
 لم تُمنح له الجوائز الكبرى، ولم تُكتب عنه الدراسات النقدية الكافية. 
لكن بعد وفاته المفاجئة، بدأ الوسط الفني يعيد اكتشافه، وكتب عنه عدد من النقاد والمخرجين بكلمات مؤثرة، ونعته الصحافة الثقافية بأسف كبير.
ولعل أكثر ما يُؤلم أن التكريم جاء بعد فوات الأوان، كما يحدث كثيرًا في تونس مع مبدعيها.
 ومع ذلك، فإن ذكراه ستظل خالدة بأعماله، وبالصدق الكبير الذي ميّز أداءه، وبصوته الدافئ وملامحه التي تشبه الناس الذين أحبهم ومثّلهم.

تأثيره على الجيل الجديد من الفنانين

حاتم بالرابح كان قدوة للعديد من الممثلين الشبان الذين رأوا فيه مثالاً على النزاهة الفنية والصدق التعبيري.
 ترك تأثيرًا كبيرًا على من اشتغلوا معه، حيث كانوا يتحدثون دائمًا عن التزامه واحترامه للمهنة، ودقته في التحضير لكل دور، حتى وإن كان بسيطًا.
بعض الفنانين الشباب صرّحوا بعد وفاته بأنه كان يشكّل "مدرسة خاصة" في التمثيل، وأنه ألهمهم للغوص أعمق في فهم الشخصيات وفي احترام العمل المسرحي والدرامي.

تعليقات